آخر الشهر ومن منا لا يعرف ما يعني آخر الشهر! إنه الموعد الذي يطول انتظاره كل شهر، فترى الشهر ذا الثلاثين يوماً كابوساً لا تنزاح عن الصدر أيامه، فتراها جاثمة ثقالا، فكيف بأشهر ذات الواحد والثلاثين يوماً!
كثيرون منا يصرفون كل ما يقع في أيديهم، لدرجة التبذير أحياناً، فنبدد «الراتب» أو «المرتّب» أو «المعاش» قلّ أو زاد، ومنا من لا يأتي آخر الشهر إلا وقد استدان وطرق أبواب الأصدقاء والبنوك، أو تسلحب في بطاقات الائتمان والصكوك، وبنظرة خاطفة، واستعراض لما تم صرفه يجد بجردة كاشفة، أنه قد أسرف وبذّر، وأنه لم يكن أساء التقدير وقصّر، فأسرف في شراء الكماليات أو الرفاهيات، وترك الضروريات، وأنه قد أطلق لنفسه العنان في الصرف بلا وعي وحسبان، وقد أصابته حمّى التسوق، بلا تدقيق أو تحقّق، ولو حسب الضروريات والأوليات ورتّب، لما وقع في حيص بيص وأجدب، وقد بدّد المال، وبات غارقاً في دين أثقل من حمل الجبال.
قال أبو الدرداء: حسن التقدير في المعيشة أفضل من نصف الكسب، ولقط حباً منثوراً وقال: إن فقه الرجل رفقه في معيشته.
وقال أبو الأسود لولده: لا تجاودوا الله فإنه أجود وأمجد، وإنه لو شاء أن يوسع على الناس كلهم حتى لا يكون محتاجٌ لفعل، فلا تجهدوا أنفسكم في التوسعة فتهلكوا هزلاً.
وقيل لمحمد بن عمران قاضي المدينة - وهو من ولد طلحة بن عبيد الله-: إنك تنسب إلى البخل. فقال: والله إني لا أجمد في الحق ولا أذوب في الباطل.
وكان يقال: لا تصن كثيراً عن حقٍ ولا تنفق قليلاً في باطل.
ومن أمثال العرب في ذلك: لا وكس ولا شطط وإذا جد السؤال جد المنع.
وقال الشاعر:
إلا أكن عين الجــــواد فإنني على الزاد في الظلماء غير لئيمِ
وإلا أكن عين الشجاع فإنني أردّ سنــــان الرمح غير سليمِ
وقد علمت عليّا هوازن أنني فتاهـــــا وسفلى عامرٍ وتميمِ
وقال عبد الله بن معاوية بن عبد اللّه بن جعفر:
أرى نفسي تتوقُ إلى أمورٍ ويقصر دون مبلغهن حالي
فنفسي لا تطاوعني ببخــلٍ ومـــــــالي لا يبلغني فعالي
وقال أيضاً:
ولا أقولُ نعم يوماً فأتبعهــــا منعاً ولو ذهبت بالمال والولدِ
ولا اؤتمنت على سرٍ فبحت به ولا مددتُ إلى غير الجميل يدي
الشافعي:
بقدرِ الكدِّ تكتسبُ المعالي ومن طلبَ العُلا سهر الليالي
ومن رامَ العُلا من غير كدّ أضاع العمر في طلب المُحالِ
ترومُ العزّ ثم تنامُ ليــــــــلاً يغوصُ البحرَ من طلب اللآلي
ساحة النقاش