وضع الإسلام الحنيف ضوابط وقيماً وقواعد تصون القضاء من الأهواء والضغوط، وتجعله ميزانا للعدالة يضمن لكل ذي حق حقه، ويصون لكل فرد دمه وماله وعرضه، وتجعله أيضاً الحكم الفصل في إظهار الحقوق وضمانها لأصحابها، وأكثر ما تميزت به المؤسسة القضائية في الحضارة الإسلامية أنها جعلت العدل غايتها في التعامل مع كل من يقف أمامها.

أحمد مراد - رسخت الشريعة مبدأ العدل الإلهي بين البشر في تعاملاتهم، ولم تفرق بين المتخاصمين على أساس الجنس أو اللون أو الدين، وكان للقاضي مكانة مرموقة وكلمة مسموعة في المجتمع الإسلامي في عصوره الأولى لدرجة أنه كان من حق القضاة أن يُحضروا الخلفاء والولاة إلى مجالسهم فيما يتعلَّق بهم من القضايا والدعاوى والشهادات، وكان الخلفاء يلتزمون بما يأمر به القاضي، وكانت أحكام القضاء محترمة، وتُنفَّذ على أكمل وجه.

أحكام

 

وعن مكانة القضاء، يقول عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين الداعية الإسلامي الدكتور راغب السرجاني: القضاء من أعلى المراتب في الإسلام، وقد ربى الدين الحنيف في القضاة ضرورة مراقبة الله تعالى في كل الأفعال والأقوال، وذلك لأن الابتعاد عن الحق في إنزال الأحكام القضائية جريمة في حق المتخاصمين، وابتعاد عن نهج الله السوي، ولذلك حذَّر الإسلام كل من يتولى القضاء أن يحيف عن الحق، أو يبتعد عن الصواب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الْقُضَاةُ ثَلاثَةٌ: قَاضِيَانِ فِي النَّارِ، وَقَاضٍ فِي الْجَنَّةِ، رَجُلٌ قَضَى بِغَيْرِ الْحَقِّ فَعَلِمَ ذَاكَ، فَذَاكَ فِي النَّارِ، وَقَاضٍ لا يَعْلَمُ فَأَهْلَكَ حُقُوقَ النَّاسِ فَهُوَ فِي النَّارِ، وَقَاضٍ قَضَى بِالْحَقِّ فَذَلِكَ فِي الْجَنَّةِ».

 

حسن التعامل

وأشار إلى أن أكثر ما تميزت به المؤسسة القضائية الإسلامية أنها جعلت العدل وكرامة الإنسان غايتها في التعامل مع كل من يقف أمام مؤسساتها، وقد استقى القضاء الإسلامي هذه القيمة العظيمة من خلال الوحي الرباني الكريم، من مصدريه «القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة»، ولذلك فقد روى «أبو ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما روى عن الله تعالى في الحديث القدسي أنه قال: «يَا عِبَادِي، إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْـمَ عَلَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا، فَلاَ تَظَالَمُوا»، ولم يكن تطبيق العدل فيما بين المسلمين وبعضهم فقط، بل أمرنا الله تعالى بضرورة التعامل بالعدل مع من نكرههم ونبغضهم، وهو ما كان جديدا في ساحة التعامل العالمي.

استقلال

وعن استقلال القضاء وتاريخه في الإسلام أوضح السرجاني أن استقلال القضاء في الإسلام وحريته منذ فترة مبكرة في تاريخ الحضارة الإسلامية، مستشهداً بقصة درع علي بن أبي طالب مع النصراني، حيث قام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب بمقاضاة نصرانيا في درع له، بعد أن وجد درعه عند رجل نصراني، فأقبل به إلى قاضي يخاصمه، ثم قال: هذا الدرع درعي ولم أبع ولم أَهبه لأحد. فقال القاضي للنصراني: ما تقول فيما يقول أمير المؤمنين؟ فقال النصراني: ما الدرع إلا درعي، وما أمير المؤمنين عندي بكاذب. فالتفت القاضي إلى علي فقال: يا أمير المؤمنين، هل من بينة؟ فضحك علي وقال: أصاب القاضي، ما لي بينة. فقضى به القاضي للنصراني، فأخذه النصراني ومشى خُطًى، ثم رجع، فقال: أما أنا فأشهد أن هذه أحكام الأنبياء، أمير المؤمنين يُدنيني إلى قاضيه يقضي عليه، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، الدرع والله درعك يا أمير المؤمنين.

وعن القيم في الإسلام أضاف أستاذ الشريعة الإسلامية بجامعة الأزهر، الدكتور عبدالفتاح إدريس: جاءت الحضارة الإسلامية بالأخلاق والقيم، ورسخت مبدأ العدل الإلهي بين البشر في تعاملاتهم، ولم تفرق بين المتخاصمين على أساس الجنس أو اللون أو الدين، ونتيجة للاستقلالية التي تمتعت بها مؤسسة القضاء في الإسلام، وجدنا من وقف في وجه مؤسسة الخلافة، ولم تأخذه في أحكامه القضائية لومة لائم، فقد كتب الخليفة المنصور أبو جعفر إلى سوار بن عبدالله قاضي البصرة: انظر الأرض التي تخاصم فيها فلان القائد وفلان التاجر، فادفعها إلى القائد، فكتب إليه سوارٌ: إن البيِّنة قد قامت عندي أنها للتاجر، فلستُ أُخْرِجها من يده إلا ببينة. فكتب إليه المنصور: والله الذي لا إله إلا هو لتدفعنها إلى القائد. فكتب إليه سوار: والله الذي لا إله إلا هو لا أخرجنها من يد التاجر إلا بحق. فلما جاءه الكتاب قال: ملأتُها والله عدلاً، وصار قضاتي تردُّني إلى الحقِّ.

منهج

ويقول أستاذ الفقه المقارن بجامعة الأزهر الدكتور أحمد محمود كريمة: الإسلام منهج متكامل للحياة، فيه العبادة الخالصة، والأخلاق الكريمة، والتشريع الرفيع الذي يضمن لكل ذي حق حقه، ويصون لكل فرد دمه وماله وعرضه، ولما كان القضاء هو المرجع والأساس في فصل المنازعات وإنهاء الخصومات، والحكم الفصل في إظهار الحقوق وضمانها لأصحابها، فقد وضع له الإسلام القواعد والضوابط التي تمنع ذوي النفوس المريضة من التطاول والتسلط، وتحفظ الأمة من العبث والظلم، ويجب على مؤسسات القضاء في عالمنا العربي والإسلامي الالتزام بهذه القواعد والضوابط حتى يكون القضاء ميزان العدالة، وعنده يأخذ كل ذي حق حقه، وتحتم القواعد والضوابط الإسلامية المنظمة للقضاء على القاضي إذا توفرت لديه وسائل الإثبات أو النفي من الحجج الظاهرة أن يقضي بها، وهو مأمور باتباع ما ظهر له من الأدلة، وأن يبذل جهده للتعرف على جوانب الدعوى، ويقضي بحسب ما توصل إليه اجتهاده أنه الحق، وظن أنه الصواب من دون أن يتأثر بأي أوضاع أو ظروف، فقد قال صلى الله عليه وسلم: «إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإن حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر».

نصائح

ويضيف: ونظراً لأهمية منصب القضاء في المجتمع الإسلامي، وجدنا العقلاء وأكابر الأمة وعلماءها ينصحون القضاة بنصائح جامعة تضمن لهم تحقيق العدالة والقسط في مجتمعاتهم، فقد نصح عمر بن الخطاب أبا موسى الأشعري عندما ولاَّه قضاء الكوفة، قائلاً: «القضاء فريضة مُحْكَمَةٌ، وسُنَّةٌ مُتَّبَعَةٌ، فافهم إذا أُدْلِيَ إليك، فإنه لا ينفع تَكَلُّمٌ بحقٍّ لا نفاذ له، وآسِ بين الناس في وجهك وعَدْلِك ومجلسك، حتى لا يطمع شريف في حيفك، ولا ييأس ضعيف من عدلك. البيِّنَة على مَنِ ادَّعى، واليمين على مَنْ أنكر، والصلح جائز بين المسلمين إلاَّ صلحًا أَحَلَّ حرامًا أو حَرَّمَ حلالاً، ولا يمنعك قضاءٌ قضيته أمس فراجعتَ اليوم فيه عقلك، وهُدِيتَ فيه لرُشْدِكَ أن تَرْجِعَ إلى الحقِّ، فإنَّ الحقَّ قديم، ومراجعة الحقِّ خير من التمادي في الباطل».

المصدر: الاتحاد
  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 50 مشاهدة
نشرت فى 5 يناير 2013 بواسطة alsanmeen

ساحة النقاش

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

1,306,215