أحمد مراد - كان الإمام ابن كثير ولا يزال من أشهر مفسري القرآن الكريم في التاريخ الإسلامي الممتد لأكثر من 1400 عام، وكان العالم الذي يعمل بما يعلم، فكان لا يخشى في الله لومة لائم، يقول الحق، ويقرر الشرع، ويؤدي الأمانة، ويبلِّغ حكم الله تعالى في كل الأمور والظروف والأحوال، ولو كان الأمر يتعلق بالذين يحاولون أن يتحصنوا بفتوى كبار العلماء، ويجعلوها ذريعة لتحقيق مآربهم، حيث عاش 74 عاماً في خدمة الإسلام ولقب بشيخ المفسرين والمجاهد ضد البدع.
نشأة الإمام
ويقول الداعية الإسلامي الدكتور راغب السرجاني، عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين: هو إسماعيل بن عمر بن كثير، ولِد سنة 701 هجرية الموافقة لسنة 1301 ميلادية في قرية «مجيدل» بالشام، وعاش في دمشق، وكان للبيئة المحيطة به أثر كبير في نشأته، فقد كان أبوه خطيباً ببلدته إلى أن توفِّي سنة 703 هجرية، وبقي ابن كثير تحت رعاية أخيه كمال الدين عبدالوهاب، وترعرع في طفولته في هذه القرية مدة أربع سنوات، وحفظ أحاديث الناس عن خطب والده، وأقواله المأثورة، وأشعاره، وكان سبب تسميته إسماعيل هو التيمن بأخيه الأكبر - من أبيه - الذي سلك طريق العلم، فأخذه عن والده.
ولما بلغ ابن كثير السابعة من عمره، ارتحل بصحبة أخيه الشقيق عبدالوهاب إلى مدينة دمشق التي كانت ملاذ العلماء، وحاضرة العلم، ومركز الحضارة، ومحط الأنظار، التي يفد إليها العلماء والطلاب من كل حدب وصوب، وكان أخوه عبد الوهاب بمنزلة الأب والأستاذ الأول له، الذي أخذ منه الشيء الكثير، واستمر في ملازمته والاستفادة من علمه طوال حياته التي امتدت إلى سنة 750 هجرية.
واستقر ابن كثير في دمشق، وصار ابنا من أبنائها، وعالما من علمائها، وخطيباً ومدرساً فيها، وأحبها من قلبه فلم يفارقها حتى مات ودُفن فيها.
اكتناز المعلومات
وحبا الله تعالى ابن كثير الصفات التي لا يتصف بها إلا العلماء الأخيار الأفذاذ، أهمها الحفظ، فكان قادراً على حفظ العلوم والمتون، واكتناز المعلومات، وظهر أثر ذلك في مصنفاته، فقد حفظ ابن كثير القرآن الكريم، وهو في الحادية عشرة من عمره، وحفظ التنبيه في الفقه الشافعي، وعرضه سنة ثماني عشرة، وحفظ مختصر ابن الحاجب في أصول الفقه وحفظ المتون المتنوعة في العلوم ولذلك وصفه عدد من العلماء بحفظ المتون، فقال شيخه الذهبي عنه: «ويحفظ جملة صالحة من المتون والرجال وأحوالهم، وله حفظ ومعرفة».
ومن صفات ابن كثير أيضاً أنه كان حريصاً على التزام السنة، والدعوة إلى اتِّباع الصالحين، وهو ما يظهر عند مراجعة مؤلفاته وكتبه، وكان يحارب البدع، ويدعو إلى تركها، ويساهم في إنكارها، ويفرح لإبطالها، ويسجِّل هذه المشاعر والعواطف والمبادئ في كتبه ومصنفاته، وكان يتتبع البدع ويتألم لوجودها، ويسعى لإبطالها، ويهلل لإلغائها.
وترك ابن كثير عشرات ومئات المؤلفات التي أثرت المكتبة الإسلامية وأشهرها «تفسير القرآن العظيم»، و«البداية والنهاية»، وكتاب «التكميل في معرفة الثقات والضعفاء والمجاهيل»، و«تخريج أحاديث أدلة التنبيه في فروع الشافعية»، و«تخريج أحاديث مختصر ابن الحاجب في أصول الفقه»، و«فضائل القرآن»، وكتاب «الهَدْي والسَّنَن في أحاديث المسانيد والسُّنَن»، وهو المعروف بجامع المسانيد، جمع فيه بين مسند الإمام أحمد والبزار وأبي يعلى ومعجمي الطبراني مع الكتب الستة: الصحيحين والسنن الأربعة، ورتبه على الأبواب.
وكان ابن كثير يعتمد في تفسير القرآن الكريم على عبارة سهلة، وأسلوب مختصر، يوضِّح المعنى العام للآية الكريمة، وكان يفسر الآية بآية أخرى إن وجدت حتى يتبين المعنى، ويظهر المراد، وقد يذكر عدة آيات في تفسير الآية الأولى، وكأنه يجمع بين الآيات المتشابهة والمتماثلة في المعنى، والمتحدة في الموضوع، فتأتي الآيات المتناسبة في مكان واحد، وكان يعتمد على رواية الأحاديث بأسانيدها غالباً، وبغير إسناد أحيانًا لإلقاء الضوء النبوي على معنى الآية؛ لأن وظيفة الرسول التبليغ والبيان، وكان يُردِف في تفسير الآية ما وصله من أقوال الصحابة في تفسير هذه الآية، حسب المؤهلات التي يمتلكونها، بالإضافة إلى الاستئناس بأقوال التابعين وتابعي التابعين ومَن يليهم من علماء السلف، وخاصةً أهل القرون الأولى الذين شهد لهم النبي بالخيرية.
إمام التسبيح
ويذكر الدكتور راغب أقوال بعض العلماء والمؤرخين في ابن كثير، حيث قال عنه المؤرخ الشهير ابن تغري بردي: «الشيخ الإمام عماد الدين أبو الفداء.. جمع وصنَّف، ودرَّس وحدَّث وألَّف، وكان له اطلاع عظيم في الحديث والتفسير والفقه والعربية وغير ذلك». وقال ابن حبيب: «إمام التسبيح والتهليل، وزعيم أرباب التأويل، سمع وجمع وصنَّف، وأطرب الأسماع بقوله وشنَّف، وحدَّث وأفاد، وطارت أوراق فتاواه إلى البلاد، واشتهر بالضبط والتحرير، وانتهت إليه رئاسة العلم في التاريخ والحديث والتفسير»، وقال السيوطي عن تفسير ابن كثير: «وله التفسير الذي لم يؤلَّف على نمطه مثله».
ساحة النقاش