جارى التحميل
استخدم زر ESC أو رجوع للعودة
عبدالرحيم بن سعيد الإسحاقي
|
بسم الله الرحمن الرحيم
الحديث عن الجنة في القرآن والسنة عجيب ومشوق وله أسلوب فريد آخاذ، ولعلي أن ألفت الانتباه إلى طريقة بديعة من طرائق الوحي للتشويق إلى الجنة، وأساليب القرآن والسنة في ذلك كثيرة ومتنوعة وعجيبة، ومن ذلك أن المتأمل يجد أن حديث القرآن والسنة عن الجنة ونعيمها في أغلبه يتكلم ويصف ما نراه أنه الأقل في نظرنا في الدنيا ويصف أدنى النعيم حتى يحار العقل ولا يقف عن تصور النعيم الأعلى . ولذلك وردت أحاديث كثيرة في نعيم أدنى أهل الجنة منزلة، وبوّب الأئمة عليها بهذا ، فعند مسلم في الصحيح (باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها)، وعند الدرامي في السنن (باب في أدنى أهل الجنة منزلا) ، وعند الترمذي في السنن (باب ما جاء ما لأدنى أهل الجنة من الكرامة)، وعند ابن حبان في صحيحه (ذكر سؤال الكليم ربه عن أدنى أهل الجنة وأرفعهم منزلة)، .... إلخ وهكذا في غير ما كتاب من كتب السنة، وهذا التوافر على التبويب بهذه الترجمة لها مغزى تفطن له الأئمة . ولقد تفطن قبلك ذلك كليم الله موسى عليه السلام لهذا الباب - وهو عقد المقارنة بين الأدنى والأعلى من نعيم الجنة - فسأل ربه عن ذلك كما في جاء في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عله وسلم قال : (سأل موسى ربه، ما أدنى أهل الجنة منزلة، قال: هو رجل يجيء بعد ما أدخل أهل الجنة الجنة، فيقال له: ادخل الجنة، فيقول: أي رب، كيف وقد نزل الناس منازلهم، وأخذوا أخذاتهم، فيقال له: أترضى أن يكون لك مثل ملك ملك من ملوك الدنيا؟ فيقول: رضيت رب، فيقول: لك ذلك، ومثله ومثله ومثله ومثله، فقال في الخامسة: رضيت رب، فيقول: هذا لك وعشرة أمثاله، ولك ما اشتهت نفسك، ولذت عينك، فيقول: رضيت رب، قال: رب، فأعلاهم منزلة؟ قال: أولئك الذين أردت غرست كرامتهم بيدي، وختمت عليها، فلم تر عين، ولم تسمع أذن، ولم يخطر على قلب بشر...) . فماذا ستتخيل من نعيم أعلى أهل الجنة منزلة إذا عرفت أن أدناهم -وما فيهم دني- رجل يقول له ربه : (اذهب فادخل الجنة فإن لك مثل الدنيا وعشر أمثالها. فيقول: أتسخر بي وأنت الملك. قال الراوي : فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحك حتى بدت نواجذه صلوات الله وسلامه عليه, فكان يقول: ذاك أدنى أهل الجنة منزلة) رواه البخاري ومسلم ؟!!! - فتأمل في قوله صلى الله عليه وسلم: (موضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها) رواه البخاري، وقال صلى الله عليه وسلم : (لقابُ قوس في الجنة خير مما طلعتْ عليه الشمس أو تغرب) رواه البخاري . إذا كان هذا موضع السوط ومقدار قاب قوسين يعني قرابة متر أو أقل فكيف بجنة عرضها السموات والأرض ؟!!! - وتأمل في قوله تعالى : (يطوف عليهم ولدان مخلدون إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤا منثورا)، وقال تعالى : (ويطوف عليها غلمان لهم كأنهم لؤلؤ مكنون ) . فإذا كان هذا الجمال والخلود والنعيم للولدان الذين هم خدم أهل الجنة فكيف بالمخدومين والمنعَّمين من أهل الإيمان ؟!!! - وتأمل في قوله تعالى : (متكئين على فرش بطائنها من إستبرق ) . فإذا كان هذا الإستبرق الذي هو الحرير الخالص الصفيق هو ما في داخل تلك الأرائك وكان هذا هو حشو تلك المتاكئ فما بالك بظاهرها بل كيف يكون خارجها؟!!! - وتأمل في قوله تعالى : (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض) وقال تعالى : ( سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض( . فإذا كان عَرْض الجنة بمسافة السموات السبع والأرضين السبع متصلة بعضها ببعض فكيف يكون طولها ؟!!! - وتأمل في قوله تعالى : ( يسقون من رحيق مختوم * ختامه مسك )، قال بعض أهل العلم في قوله تعالى : (ختامه مسك) أن المراد به - والله أعلم - أنه ما يكون في آخر الشراب من الحثالة والشوائب . فإذا كانت حثالة شراب أهل الجنة من المسك فكيف بالشراب نفسه ؟!!! - وتأمل في قوله صلى الله عليه وسلم : (إني رأيت الجنة فتناولت منها عنقوداً، ولو أخذته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا( رواه البخاري ومسلم. فإذا كان هذا عنقود واحد فكيف بعناقيد العنب في الجنة ؟!!! - وتأمل في قوله صلى الله عليه وسلم : (والذي نفس محمد بيده لمناديل سعد بن معاذ في الجنة أحسن من هذا) رواه البخاري . فإذا كانت هذه هي المناديل فكيف بالثياب ؟!!! وكيف بصاحب المناديل ؟!!! - وتأمل في قوله صلى الله عليه وسلم : (ولو أن امرأة من أهل الجنة اطلعت إلى أهل الأرض لأضاءت ما بينهما ولملأته ريحا ولنصيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها) رواه البخاري . فإذا كانت هذه الإطلالة السريعة والاطلاع اللطيف من الحورية على أهل الدنيا أضاء له ما بين المشرق والمغرب فكيف بمن ينظر لهذا الوجه وهو في قصره في الجنة بكرة وعشيا ؟!!! وإذا كان نصيف الحورية الذي على رأسها خير من الدنيا وما فيها فكيف بصاحبة النصيف ؟!!! ويكفي في نعيم الجنة قوله تعالى - عن أهل الجنة- : (وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء) هذا هو النعيم .. والله .. أن تتبوأ من الجنة حيث تشاء، فليس هناك مناطق محظورة .. ولا محميات .. ولا أسلاك شائكة .. ولا صواعق مكهربة .. ولا لفتات تحذيرية عليها (خطر ممنوع الاقتراب) أو (أملاك خاصة) أو (تتعرض للمسألة القانونية) .. ولا فيها حواجز أمنية .. ولا سواتر ترابية .. ولا كاميرات تصوير .. ولا أبراج مراقبة .. ولا عسكر ولا حراس ولا طوارئ .. ولا تذاكر دخول ولا رسوم عضوية ولا...إلخ .
إن مجرد الحرية في التنقل والانطلاق في السير والسياحة في الأرض لذة ونعيم وشعور نفسي عميق بالراحة والأمان والطمأنينة والحرية والسعادة ولقد كفل الله لأهل الجنة هذا الشعور ليجمع لهم كل مشاعر السعادة، وبالمقابل فقد حرم الله حتى هذه الشعور النفسي المجرد من أهل النار حتى يجتمع عليهم العذاب النفسي والجسدي فقال الله تعالى في غير ما آية : (إنها عليهم موصدة)، إن الشعور بالمنع وحده عذاب نفسي وشعور بحبس وإحساس بسجن وهذا ملازم لأهل الدنيا لوجود المنع والانقطاع في نعيمها ولذلك قال تعالى معرضا بفاكهة الدنيا : (لا مقطوعة ولا ممنوعة) ، وهذا كله مصداق لقوله صلى الله عليه وسلم : (الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر) رواه مسلم .
أخيرا .. قال بعض العارفين : لو لم تكن الجنة ذات قيمة عند الله لما وعد الله بها عباده . قلت : صدق والله ، قال تعالى : ( جنات عدن التي وعد الرحمن عباده بالغيب إنه كان وعده مأتيا ) .
|
المصدر: صيد الفوائد
ساحة النقاش