السؤال : أنا مقيم في إحدى الدول الإسكندنافية ، وقد انتشرت بين المسلمين فتنة الربا ، أو داء الربا - بتعبير أصح - ، وذلك من خلال فتوى اعتمد عليها هؤلاء ، أخذوها من دار إفتاء رسمية في إحدى الدول العربية ، بدعوى أن المعاملات المالية الفاسدة مع الكافر المحارب جائزة ، وينسبون ذلك لأبي حنيفة رحمه الله ، وتلميذه محمد بن الحسن . وقد أرسلت لكم رابط تلك الفتوى ، فنرجو الرد المفصل ، لكي تكون فتواكم تبياناً للحق .
الجواب:
الحمد لله
أولاً :
الربا من كبائر الذنوب ، وقد توعَّد الله المرابين بمحق أموالهم في الدنيا ، والعذاب الشديد في البرزخ ويوم القيامة .
قال الله تعالى : ( الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275) يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276) إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (277) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ ) البقرة / 275-279 .
وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن أكل الربا من الذنوب التي يعذب بها صاحبها في القبر عذاباً شديداً . وانظر جواب السؤال رقم ( 8829 ) .
ولعل ما يحصل الآن – شهر شوال 1429هـ - من انهيار اقتصادي عالمي هو نتيجة حتمية لانتشار الربا والمجاهرة به ، وهو صورة من صور " المحق " الذي توعد الله به المرابين ، ( وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى ) طه / 127 .
وإننا لنعجب أشد العجب ، من هؤلاء المفتين الذين راحوا يتحايلون على تحريم الربا ، أو يبحثون عن أقوال ضعيفة يفتون بها الناس ، فيحلون لهم الحرام ، ويمهدون لهم الطريق لارتكاب تلك الكبيرة التي هي من موبقات الذنوب ، بدلاً من نهيهم عنها ، وترهيبهم منها ، وإرشادهم إلى طيب المأكل والملبس والمسكن ، وتحذيرهم من أكل الحرام ( فكل جسد نبت من حرام فالنار أولى به ) .
وعقوبة المتحايل على المحرمات في الشرع معلومة ، فقد مسخ الله أصحاب السبت قردةً جزاءً لهم على تحايلهم على ما حرم الله .
واجتهادات العلماء رحمهم الله مع تعظيمنا وحبنا لهم – معلوم أنها ليست شرعاً ، وإنما هي اجتهادات منهم رحمهم الله للوصول إلى الصواب ، فمنها ما يكون قد وافق الصواب ، ومنها ما يكون خطأ ، والمخطئ منهم له أجر على اجتهاده ومحاولة الوصول إلى الحق ، والمصيب فيهم له أجران ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ ) .
وليس لنا أن نتبعهم فيما أخطأوا فيه ، بل الواجب على كل مسلم اتباع الكتاب والسنة ، قال الله تعالى : ( وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ ... ) الزمر / 55 .
وقال الله تعالى عن أهل الكتاب : ( اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ ) وقد كانوا يحلون لهم الحرام ، ويحرمون عليهم الحلال فيتبعونهم في ذلك ، وهو ما يفعله بعض المفتين اليوم – للأسف الشديد - .
ثانياً :
مع تحريم الربا الصريح في كتاب الله تعالى ، وسنة النبي صلى الله عليه وسلم ، إلا أننا نجد من يأتي ويبيح هذا الربا الصريح بدعوى عدم شمول الربا لصورته ، ويتحايل على ذلك بتغيير اسم الربا ، فبدلاً من تسميتها " فوائد ربوية" يسمونها "عائد استثماري" ، وقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم عن قوم يشربون الخمر ، يسمونها بغير اسمها ، وجعل ذلك من أسباب خسف الأرض بهم ، ومسخهم قردة وخنازير ، فَفَعَلَ هؤلاء بالربا ، كما فعل أولئك بالخمر ، والربا أعظم تحريماً من شرب الخمر ، وأشد إثماً .
وقد يبيح بعضهم الربا بدعوى أن هذه فتوى أبي حنيفة رحمه الله ! وهو بالإضافة إلى الافتراء على الشرع بإباحة هذه الصورة : فهو افتراء على أبي حنيفة فإنه لم يقل ما نسبه إليه هؤلاء .
ولبيان ذلك باختصار نقول : إن من أفتى بتلك الفتيا خالف ما قاله أبو حنيفة من جهتين :
الأولى : أن هؤلاء المفتين لا يعدُّون دول الغرب " ديار حرب " – بل ولا يسمونها " ديار كفر " ! - ، وفتيا أبي حنيفة إنما هي في دار الحرب .
والعلماء يفرقون بين " دار الحرب " و " دار الكفر " فدار الكفر هي الدار التي يسيطر عليها الكفار ويحكمونها بقوانينهم وأنظمتهم ، ودار الحرب هي دار الكفر التي ليست بينها وبين المسلمين عهد أو صلح أو أمان ، فقد تكون الدار "دار كفرٍ" ولكنها ليست "دار حرب" لأن بيننا – نحن المسلمين – وبينها معاهدة أو صلحاً على ترك القتال مدة معلومة .
فالذي يريد أن يستدل بكلام أبي حنيفة يلزمه أولاً أن يصف تلك البلاد بأنها "دار حرب" فإن امتنع من ذلك ، فليس له الاستدلال بكلام أبي حنيفة على ما يخالف ما قاله أبو حنيفة .
والثانية : أن أبا حنيفة يفتي بجواز أن يأخذ المسلم الربا من أهل تلك الديار ! لا أن يدفع المسلمون لهم الربا ! وما ذاك إلا لأن أموالهم حلال للمسلمين باعتبارهم دار حرب ، فالاستيلاء عليها بهذه الصورة عنده جائز .
فانظر أيها المسلم ، وقارن ، بين ما أفتاه ذلك الإمام – مع مخالفتنا له – وبين ما يفتي به هؤلاء لترى الفرق الشاسع بينهما ، في الصورة ، والحكم .
فالشروط عند أبي حنيفة ومن وافقه من الحنفية لجواز التعامل بالربا :
1. أن يكون العقد في أرضهم .
2. أن تكون دارهم "دار حرب" .
3. أن يكون المسلم هو الآخذ للربا لا المعطي .
وانظر : " المبسوط " ( 14 / 56 ) .
والصحيح – وهو ما ذهب إليه أكثر العلماء ، ومنهم الأئمة : مالك والشافعي وأحمد - : أن الربا محرَّم بين مسلم ومسلم ، وبين مسلم وكافر في ديار الإسلام ، أو ديار الكفر ، أو ديار الحرب .
قال ابن قدامة المقدسي رحمه الله :
" ويحرم الربا في دار الحرب ، كتحريمه في دار الإسلام ، وبه قال مالك ، والأوزاعي ، وأبو يوسف ، والشافعي ، وإسحاق .
لقول الله تعالى : ( وحرَّم الربا ) البقرة/ 275 ، وقوله : ( الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ) البقرة/ 275 ، وقال تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا ) البقرة/ 278 ، وعموم الأخبار يقتضي تحريم التفاضل ، وقوله : ( من زاد أو ازداد فقد أربى ) عام ، وكذلك سائر الأحاديث ؛ ولأن ما كان محرما في دار الإسلام : كان محرما في دار الحرب ، كالربا بين المسلمين" انتهى باختصار .
" المغني " ( 4 / 47 ) .
وقال أيضاً :
" من دخل إلى أرض العدو بأمان : لم يخنهم في مالهم ، ولم يعاملهم بالربا " انتهى .
وقال أيضاً :
" أما تحريم الربا في دار الحرب : فقد ذكرناه في الربا ، مع أن قول الله تعالى : ( وحرَّم الربا ) ، وسائر الآيات ، والأخبار الدالة على تحريم الربا : عامة ، تتناول الربا في كل مكان ، وزمان " انتهى .
" المغني " ( 9 / 237 ) .
وقال النووي رحمه الله :
" الربا يجري في دار الحرب جريانه في دار الإسلام ، وبه قال مالك وأحمد وأبو يوسف ، ودليلنا : عموم الأدلة المحرمة للربا , فلأن كل ما كان حراماً في دار الإسلام : كان حراماً في دار الشرك , كسائر الفواحش والمعاصي ; ولأنه عقد فاسد فلا يستباح به المعقود عليه كالنكاح " انتهى .
ثالثاً :
استدل الحنفية قديماً – ومن قلَّدهم حديثاً - بأدلة ضعيفة من حيث السند ، وضعيفة من حيث الاستدلال .
فمن أدلتهم التي استدلوا بها :
1. ما روى مكحول عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( لا ربا بين مسلم وحربي في دار الحرب ) .
وأجيب عن هذا الاستدلال : بأن الحديث مرسل لأن "مكحول" من التابعين ، والمرسل من أقسام الضعيف ، وقد ضعفه الإمام الشافعي ، وابن حجر ، والنووي ، وآخرون .
قال الإمام الشافعي رحمه الله :
" وما احتج به أبو يوسف لأبي حنيفة ليس بثابت ، فلا حجة فيه " انتهى .
" الأم " ( 7 / 358 ، 359 ) .
وقال النووي رحمه الله :
" والجواب عن حديث مكحول : أنه مرسل ضعيف فلا حجة فيه ، ولو صح لتأولناه على أن معناه : " لا يباح الربا في دار الحرب " ؛ جمعاً بين الأدلة " انتهى .
" المجموع " ( 9 / 488 ) .
وقال ابن حجر رحمه الله :
لم أجده .
" الدراية في تخريج أحاديث الهداية " ( 2 / 158 ) .
2. استدلوا بحديث بني قينقاع ، قالوا : فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حين أجلاهم قالوا : إن لنا ديونًا لم تحل بعد ، فقال : ( تَعَجَّلُوا أو ضَعُوا ) ، ولمَّا أجلى بني النضير قالوا : إن لنا ديونًا على الناس ، فقال : ( ضعوا أو تعجلوا ) .
وَبيَّن السرخسي وجـه الدلالة فقال : " ومعلوم أن مثل هذه المعاملة - الربا المتمثل في قوله : " ضعوا أو تعجلوا " - لا يجوز بين المسلمين ؛ فإنَّ من كان له على غيره دَيْن إلى أجل فوضع عنه بشرط أن يعجل بعضه : لم يجُز ، كره ذلك عمر ، وزيد بن ثابت ، وابن عمر رضي الله عنهم ، ثم جوزه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حقهم ؛ لأنهم كانوا أهل حرب في ذلك الوقت ولهذا أجلاهم ، فعرفنا أنه يجوز بين الحربي والمسلم ما لا يجوز بين المسلمين " انتهى .
وأجيب عن هذا بأن الحديث ضعيف ، لا يصح .
أما حديث بني قينقاع : فرواه الواقدي في مغازيه ، وحديث بني النضير : رواه الحاكم في " المستدرك " ( 2 / 61 ) والدارقطني في " السنن " ( 3 / 46 ) والبيهقي في " السنن " ( 6 / 28 ) ، و فيه : مُسْلِمُ بْنُ خَالِدٍ الزَّنْجِىُّ الْمَكِّىُّ ، قال عنه الإمام البخاري : منكر الحديث . ولذلك لما قال الحاكم عن هذا الحديث : صحح الإسناد ولم يخرجاه ، تعقبه الذهبي بقوله : الزنجي ضعيف ، وعبدالعزيز ليس بثقة . وقال الدارقطني بعد إخراجه لهذا الحديث : في إسناده مسلم بن خالد وهو سيء الحفظ ضعيف ، وقد اضطرب في هذا الحديث . وقد حسن ابن القيم هذا الحديث . كما في أحكام أهل الذمة 1/396 .
ثم هذه المسألة معروفة عند الفقهاء بمسألة " ضَعْ وتعجل " . وهي أن يكون لشخص دين مؤجل على شخص آخر فيتفقان على تعجيل الدَّين مقابل إسقاط بعضه ، وقد اختلف الفقهاء في جوازها . والصحيح أنها جائزة ، وليست من الربا في شيء ، وبناء على ذلك يكون احتجاج الأحناف بها على جواز الربا بين المسلم والحربي غير صحيح ، بل هي جائزة كذلك بين المسلم والمسلم .
وعلى رأس المجيزين لها الصحابي الجليل عبد الله بن عباس رضي الله عنه ، وأيده بالجواز شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم ، وأفتى بجوازها علماء اللجنة الدائمة ، والشيخ العثيمين ، وصدر بذلك قرار من " مجمع الفقه الإسلامي " وأجازها ابن عابدين من فقهاء الأحناف .
وانظر حاشية ابن عابدين ( 5/160) .
قال ابن القيم رحمه الله :
" إذا كان له على رجل ديْن مؤجل ، وأراد ربُّ الدَّين السفر ، وخاف أن يَتْوى ماله – أي : يذهب ويضيع - ، أو احتاج إليه ، ولا يمكنه المطالبة قبل الحلول ، فأراد أن يضع عن الغريم البعض ، ويعجل له باقيه : فقد اختلف السلف ، والخلف في هذه المسألة :
فأجازها ابن عباس ، وحرمها ابن عمر ، وعن أحمد فيها روايتان ، أشهرهما عنه : المنع ، وهي اختيار جمهور أصحابه .
والثانية : الجواز ، حكاها ابن أبي موسى ، وهي اختيار شيخنا – أي : ابن تيمية - .
وحكى ابن عبد البر في " الاستذكار " ذلك عن الشافعي قولاً ، وأصحابه لا يكادون يعرفون هذا القول ، ولا يحكونه ، وأظن أن هذا إن صح عن الشافعي فإنما هو فيما إذا جرى ذلك بغير شرط ، بل لو عجل له بعض دينه - وذلك جائز - فأبرأه من الباقي حتى لو كان قد شرط ذلك قبل الوضع والتعجيل ، ثم فعلاه بناء على الشرط المتقدم : صح عنده ؛ لأن الشرط المؤثر في مذهبه : هو الشرط المقارن ، لا السابق ، وقد صرح بذلك بعض أصحابه ، والباقون قالوا : لو فعل ذلك من غير شرط : جاز ، ومرادهم : الشرط المقارن .
وأما مالك : فإنه لا يجوزه مع الشرط ، ولا بدونه ؛ سدّاً للذريعة ، وأما أحمد : فيجوزه في ديْن الكتابة ، وفي غيره عنه روايتان ... .
وهذا ضد الربا ؛ فإن ذلك [ يعني : الربا ] يتضمن الزيادة في الأجل والدَّيْن ، وذلك إضرار محض بالغريم ، ومسألتنا تتضمن براءة ذمة الغريم من الدين ، وانتفاع صاحبه بما يتعجله ، فكلاهما حصل له الانتفاع من غير ضرر ، بخلاف الربا المجمع عليه ، فإن ضرره لاحق بالمدين ، ونفعه مختص برب الدَّيْن ، فهذا ضد الربا ، صورة ، ومعنى" انتهى .
" إغاثة اللهفان " ( 2 / 11 - 13 ) .
وانظر قول اللجنة الدائمة ، ومجمع الفقه الإسلامي في جواب السؤال رقم : ( 13945 ) .
3. ومما استدلوا به : ما وقع عند مصارعته صلى الله عليه وآله وسلم رُكانة حين كان بمكة ، فصرعه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في كل مرة بثلث غنمه ، ولو كان مكروهًا ما فعله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ثم لمـا صرعه في المرة الثالثة قال ركانة : ما وضع أحد جنبي إلى الأرض ، وما أنت الذي تصرعني ، فرد رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم الغنمَ عليه .
يقول السرخسي : " وإنما رد الغنم عليه تَطَوُّلاً منه عليه ، وكثيرًا ما فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع المشركين يؤلفهم به حتى يُؤمِنوا " .
وهم يريدون بهذا : الاستدلال على جواز معاملة الكفار بالعقود الفاسدة المحرمة شرعاً ، لأن الرهان ( وهو الميسر ) محرمٌ في شرعنا تحريماً أكيداً .
وأجيب عن هذا الاستدلال بأن مصارعة النبي صلى الله عليه وسلم لركانة تحمل على أحد وجهين :
الأول : أن هذا من الأحكام المنسوخة ، لأنه كان في مكة قبل تشريع تحريم الميسر في المدينة ، وهذا هو قول جمهور العلماء .
ب. الثاني : أن هذا من الأفعال الجائزة إلى يوم القيامة ، وهو داخل في الرهان المباح ، لأن المقصود منه نصرة الإسلام ، وكل ما كان كذلك فهو مباح عند جماعة من العلماء ، وهو قول شيخ الإسلام ابن تيمية ، وابن القيم رحمهما الله ، وبهذا يرد أيضاً على استدلالهم بمراهنة الصدِّيق للمشركين في مكة – كما سيأتي إن شاء الله – وهذا الرهان يُلحق حكمه بالحديث الوارد في السنن ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( لَا سَبَقَ إِلَّا فِي نَصْلٍ أَوْ خُفٍّ أَوْ حَافِرٍ ) . رواه أبو داود ( 2574 ) والترمذي ( 1700 ) صححه الألباني في " صحيح أبي داود " .
السَّبَق : العِوض ، والجائزة ، يبذلان للسابق .
قال ابن القيم رحمه الله :
" وإذا ثبت هذا : فهو دليل على المراهنة من الجانبين بلا محلل ، وهو نظير مراهنة الصدِّيق ؛ فإن كل واحدة منهما مراهنة على ما فيه ظهور الدين ، فإن ركانة هذا كان من أشد الناس ، ولم يُعلم أن أحداً صرعه ، فلمَّا صرعه النبي صلى الله عليه وسلم علِم أنه مؤيد بقوة أخرى من عند الله ، ولهذا قال : ( والله ما رمى أحد جنبي إلى الأرض ) ، فكان لا يُغلب فأراد النبي صلى الله عليه وسلم بمصارعته إظهار آيات نبوته وما أيده الله به من القوة والفضل ، وكانت المشارطة على ذلك كالمشارطة في قصة الصدِّيق ، لكن قصة الصديق في الظهور بالعلم ، وهذه في الظهور بالقوة ، والقدرة ، والدين إنما يقوم بهذين الأمرين : العلم ، والقدرة ، فكانت المراهنة عليهما نظير المراهنة على الرمي ، والركوب ؛ لما فيهما من العون على إظهار الدين وتأييده ، فهي مراهنة على حق ، وأكل المال بها أكل له بالحق ، لكن النبي صلى الله عليه وسلم لمَّا كان غرضه إعلاء الحق وإظهاره : ردَّ عليه المال ، ولم يأخذ منه شيئاً ، فأسلم الرجل ، وهذه المراهنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم وصدِيقه هي من الجهاد الذي يظهر الله به دينه ، ويعزه به ، فهي من معنى الثلاثة المستثناة في حديث أبي هريرة ، ولكن تلك الثلاثة جنسها يعد للجهاد ، بخلاف جنس الصراع ؛ فإنه لم يعد للجهاد ، وإنما يصير مشابها للجهاد إذا تضمن نصرة الحق وإعلائه ، كصراع النبي ركانة ، وهذا كما أن الثلاثة المستثناة إذا أريد بها الفخر والعلو في الأرض وظلم الناس : كانت مذمومة ، فالصراع ، والسباق بالأقدام ، ونحوهما : إذا قصد به نصر الإسلام : كان طاعة ، وكان أخذ السبق به حينئذ أخذاً بالحق ، لا بالباطل ، والأصل في المال أن لا يؤكل إلا بالحق ، لا يؤكل بباطل ، وهو ما لا منفعة فيه ... .
فهذا الأثر يدل على جواز المراهنة من الجانبين بدون محلل ، في عمل يتضمن نصرة الحق ، وإظهار أعلامه ، وتصديق الرسول صلاة الله وسلامة عليه " انتهى باختصار .
" الفروسية " ( 203 – 205 ) .
فيتبين بهذا عدم صلاحية ما استدلوا به من مصارعة النبي صلى الله عليه وسلم لركانة في مكة على جواز العقود الفاسدة مع الكفار في دار الحرب ، فهو على قول الجمهور منسوخ بتحريم الميسر على اعتبار أن الرهان من جهتين من أنواع الميسر ، أو على القول الآخر – وهو الأرجح - : أن الفعل جائز ، وأن له حكم ما ذُكر في حديث أبي هريرة من جواز الرهان على سباق الخيل ، والإبل ، والرماية بالسهم ، وما يشبه هذه مما يستعان بها على نصرة الإسلام .
4. ومما استدلوا به قولهم : وما قاله صلى الله عليه وآله وسلم فيما رواه عنه ابن عباس رضي الله عنهما وغيره ، قال : قال صلى الله عليه وآله وسلم : ( أَلاَ وَإِنَّ كُلَّ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ تَحْتَ قَدَمَيَّ ، وَرِبَا الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ ، وَأَوَّلُ رِبًا أَضَعُهُ رِبَا الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ؛ فَإِنَّهُ مَوْضُوعٌ كُلُّهُ ) .
ووجه الدلالة في هذا الحديث : " أن العباس رضي الله تعالى عنه بعدما أسلم بعد أن جيء به أسيرًا في غزوة بـدر استأذن رسولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم في الرجوع إلى مكة بعد إسلامه ، فأذن له ، فكان يُرْبي بمكة إلى زمن الفتح ، وكان فعله لا يخفى على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فلما لم ينهه عنه دل أن ذلك جائز ، وإنما جعل الموضوع من ربا في دار الحرب ما لم يقبض ، حتى جاء الفتح فصارت مكة دار إسلام ؛ ولذا وضع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الربا عند الفتح " .
ويمكن الجواب عن هذا الاستدلال من عدة وجوه :
1. قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( وأول ربا أضعه ربا العباس بن عبد المطلب ) : إنما كان في حجة الوداع في العام العاشر من الهجرة ، ولم يكن في فتح مكة .
فلا يصح الاستدلال به على أن العباس كان يتعامل مع أهل مكة بالربا لأنها دار حرب ، لأن مكة صارت دار إسلام من حين الفتح ، وكان الفتح قبل ورود هذا الحديث بأكثر من سنتين .
2. ليس عندنا دليل قطعي يفيد أن العباس رضي الله عنه كان يعلم تحريم الربا ، وأنه استمر على التعامل به بعد علمه بالتحريم .
ثم إضافة الربا إلى الجاهلية في الحديث ( ألا إن ربا الجاهلية موضوع ) قد يفيد أن هذا الربا كان قبل إسلام العباس ، لأن الجاهلية هي ما قبل الإسلام ، وعلى هذا : فالمراد من الحديث أن العباس كان يتعامل بالربا قبل إسلامه ، وكان له فوائد ربوية عند المقترضين ، فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن أخذها ، ( وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ ) وأخبر أن هذا الربا موضوع .
قال النووي رحمه الله :
" والجواب : أن العباس كان له ربا في الجاهلية من قبل إسلامه فيكفي حمل اللفظ عليه ، وليس ثَمَّ دليل على أنه بعد إسلامه استمر على الربا ، ولو سُلِّمَ استمرارُه عليه ; لأنه قد لا يكون عالما بتحريمه , فأراد النبي صلى الله عليه وسلم إنشاء هذه القاعدة وتقريرها من يومئذ " انتهى .
" المجموع " ( 10 / 488 ) .
5. ومما استدلوا به قولهم : " ولأن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قامر مشركي قريش قبل الهجرة حين أنزل الله تعالى : ( الم . غلبت الروم ... ) الآية " فقالت قريش له : ترون أن الروم تغلب ؟! قال : نعم ، فقالوا : هل لك أن تُخاطِرَنا ؟ فقال : نعم ، فخاطرهم ، فأخبر النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم ، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ( اذهب إليهم فزد في الخَطَر ) ، ففعل ، وغلبت الرومُ فارسًا ، فأخذ أبو بكر خَطَرَه ؛ فأجازه النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وهو القمار بعينه بين أبي بكر ومشركي مكة ، وكانت مكةُ دارَ شرك .
ولا يخفى أن مكة هنا أيضا لم تكن دار حرب ؛ حيث كان ذلك قبل شرع الجهاد أصلا " .
ويجاب عن هذا بمثل ما أجيت عن قصة مصارعة النبي صلى الله عليه وسلم لركانة ، فجمهور العلماء ، يرون أن هذا منسوخ ، فكان هذا قبل نزول تحريم الميسر ، ويرى بعض العلماء جواز هذا الرهان وأنه ليس منسوخاً ، لأن المقصود منه نصرة الإسلام . وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم .
قال ابن القيم رحمه الله :
" وقد اختلف أهل العلم في إحكام هذا الحديث ونسخه على قولين :
فادعت طائفة نسخه بنهي النبي عن الغرر ، والقمار ، قالوا : ففي الحديث دلالة على ذلك وهو قوله : ( وذلك قبل تحريم الرهان ) .
( وإلى هذا القول ذهب أصحاب مالك ، والشافعي ، وأحمد ) .
وادعت طائفة أنه محكم غير منسوخ ، وأنه ليس مع مدعي نسخه حجة يتعين المصير إليها ، قالوا : والرهان لم يحرَّم جملة ؛ وإنما الرهان المحرَّم : الرهان على الباطل الذي لا منفعة فيه في الدين ، وأما الرهان على ما فيه ظهور أعلام الإسلام ، وأدلته ، وبراهينه - كما قد راهن عليه الصدِّيق - : فهو من أحق الحق ، وهو أولى بالجواز من الرهان على النضال ، وسباق الخيل ، والإبل . وإلى هذا ذهب أصحاب أبي حنيفة ، وشيخ الإسلام ابن تيمية " انتهى باختصار .
" الفروسية " ( ص 96 - 98 ) .
وقال رحمه الله :
" وقوله : ( وذلك قبل تحريم الرهان ) : من كلام بعض الرواة ، ليس من كلام أبي بكر ، ولا من كلام النبي صلى الله عليه وسلم " انتهى .
" الفروسية " ( ص 95 ) .
6. ومما قالوه في إباحة العقود الفاسدة – ومنه الربا – في ديار الحرب : " ولأن مالهم مباح فحُقَّ للمسلم أن يأخذه بلا غدر ؛ لحرمة الغدر ؛ لأن المسلمين لو ظهروا على ديارهم لأخذوا مالهم بالغنيمة " .
ويجاب عن هذا : بأن قولهم : (( ولأن مالهم مباح )) هذا غير صحيح ، لأن كلامنا على المسلم الذي دخل ديارهم وأقام بينهم بأمان منهم [ مثل التأشيرة ] فيجب أن يكونوا هم أيضاً في أمان منه ، فلا يجوز له الاعتداء عليهم ، ولا على أموالهم ، وبالتالي : فأموالهم غير مباحة له .
قال الإمام الشافعي رحمه الله : " إذا دخل قوم من المسلمين بلاد الحرب بأمان ، فالعدو منهم آمنون إلى أن يغادروهم ، أو يبلغوا مدة أمانهم ، وليس لهم ظلمهم ولا خيانتهم " انتهى من "الأم" ( 4/263 ) .
وقال أيضاً ( 4/284 ) :
" ولو دخل رجل دار الحرب بأمان ... [ فـ] قدر على شيء من أموالهم لم يحل له أن يأخذ منه شيئاً قل أو كثر ، لأنه إذا كان منهم في أمان فهم منه في مثله ، ولأنه لا يحل له من أمانهم إلا ما يحل له من أموال المسلمين وأهل الذمة ، لأن المال ممنوع بوجوه : أولاً : إسلام صاحبه . والثاني : مال من له ذمة . والثالث : مال من له أمان إلى مدة " انتهى .
وقال النووي رحمه الله :
" وأما استباحة أموالهم إذا دخل إليهم بأمان : فممنوعة , فكذا بعقد فاسد , ولو فرض ارتفاع الأمان : لم يصح الاستدلال ; لأن الحربي إذا دخل دار الإسلام يستباح ماله بغير عقد ، ولا يستباح بعقد فاسد , ثم ليس كل ما استبيح بغير عقد استبيح بعقد فاسد , كالفروج تستباح بالسبي , ولا تستباح بالعقد الفاسد " .
" المجموع " ( 10 / 487 ، 488 ) .
ومما سبق يتبين أنه ليس مع من أجاز العقود الفاسدة – ومنها : الربا - مع الكفار في دار الحرب دليل صحيح ، والنصوص الواردة في تحريم الربا عامة ، لا ينبغي لأحدٍ أن يستثني من التحريم مكاناً ، ولا زماناً ، ولا أفراداً .
ونسأل الله تعالى أن يرد المسلمين إلى دينهم رداً جميلاً .
والله أعلم
ساحة النقاش