يعد الإمام أبو داود السجستاني إمام الأئمة في علوم الحديث، وكان من أبرز أئمة عصره فقهاً وعلماً وحفظًا ونسكاً وورعاً وإتقاناً، له مصنفات عديدة أبرزها «سنن أبوداود»، وهو أحد الكتب الستة المشهورة في علم الحديث، وفيه جمع 4800 حديث، انتخبها من بين 500 ألف حديث.
سيرته
وعن حياة إمام الأئمة، يقول الداعية الإسلامي الدكتور منصور مندور من علماء الأزهر: هو الإمام سليمان بن الأشعث بن شداد بن عمرو الأزدي أبو داود السجستاني، ولد عام 202 هجرية، ونشأ أبو داود محباً للعلم شغوفاً به، وكان همه منذ نعومة أظفاره طلب حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وتدوينه، وبدت عليه أمارات النجابة منذ صباه، وفي أيام حداثته جلس في مجلس بعض الرواة يكتب، فدنا رجل إلى محبرته وقال له: أستمد من هذه المحبرة، فالتفت إليه وقال: أما علمت أن من شرع في مال أخيه بالاستئذان، فقد استوجب بالحشمة الحرمان، فسمي منذ ذلك اليوم حكيماً، ولشغفه الكبير بالعلم وحبه له كان له كم واسع وكم ضيق، فقيل له: يرحمك الله ما هذا؟! فقال: الواسع للكتب والآخر لا نحتاج إليه.
تأليف
وكان أبو داود يشبه بأحمد بن حنبل في هديه ودله وسمته، وقال عنه ابن خلكان: كان في الدرجة العالية من النسك والصلاح. وقد أخذ الإمام أبو داود علوم الحديث وغيرها من خيرة مشايخ الدين في زمانه أمثال عثمان بن ابي شيبة، وابي داود الطيالسي، وعبدالله بن مسلمة التعنبي، ومسدد بن مسرهد.
وكان أبو داود صاحب جهد كبير في التأليف في فنون علم الحديث رواية ودراية، فمن مؤلفاته: دلائل النبوة، وكتاب التفرد في السنن، وكتاب المراسيل، وكتاب المسائل، وله أيضا ناسخ القرآن ومنسوخه، وغيرها، وسكن مدينة البصرة وقدم بغداد أكثر من مرة وحدث بكتاب السنن بها ويقال: إنه صنفه بها وعرضه على الأمام احمد بن حنبل فاستحسنه. وكان أبو داود يقول: كتبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسمئة ألف حديث انتخبت منها ما ضمنته في كتاب السنن وجمعت فيه أربعة آلاف حديث وثمانمئة حديث، وقد رتب أبو داود كتابه على كتب وأبواب، فشمل خمسة وثلاثين كتاباً، وواحداً وسبعين وثمانمئة وألف باب.
النواة الصالحة
وفي «السنن» لم يقتصر أبو داود على الصحيح، بل خَرَّج فيه الصحيح، والحسن، والضعيف، وقد تأمل العلماء سنن أبي داود فوجدوا أن الأحاديث التي سكت عنها متنوعة، فمنها الصحيح المخرج في الصحيحين، ومنها صحيح لم يخرجاه، ومنها الحسن، ومنها أحاديث ضعيفة أيضاً لكنها صالحة للاعتبار، وليست شديدة الضعف، فتبين بذلك أن مراد أبي داود من قوله “صالح” المعنى الأعم الذي يشمل الصحيح والحسن، ويشمل ما يعتبر به ويتقوى لكونه يسير الضعف، وهذا النوع يعمل به لدى كثير من العلماء، مثل أبي داود وأحمد والنسائي، وإنه عندهم أقوى من رأي الرجال، وإذا نظرنا في كتابه نجده يعقب على بعض الأحاديث ويبين حالها، وكلامه هذا يعتبر النواة الصالحة التي تفرع عنها علم الجرح والتعديل فيما بعد، وأصبح بابـاً واسعـا من أبواب مصطلح الحديث.
أهل الحديث
وقد أثنى عليه كبار علماء عصره، فقال الحافظ موسى بن هارون: “خلق أبو داود في الدنيا للحديث وفي الآخرة للجنة، ما رأيت أفضل منه”. وقال الحاكم أبو عبدالله: “أبو داود إمام أهل الحديث في عصره بلا مدافعة”، وقال أبو بكر الخلال: أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني الإمام المقدم في زمانه رجل لم يسبقه إلى معرفته بتخريج العلوم وبصره بمواضعها أحد في زمانه، رجل ورع مقدم، وكان العلماء يرفعون من قدره ويذكرونه بما لا يذكرون أحداً في زمانه مثله”، وقد عدّه أبو إسحاق الشيرازي في “طبقات الفقهاء” من جملة أصحاب الإمام أحمد بن حنبل، وقال عنه إبراهيم الحربي لما صنف كتاب “السنن”: “أُلِين لأبي داود الحديث كما ألين لداود الحديد”، وقال ابن حجر العسقلاني رحمه الله تعالى: سليمان بن الأشعث أبو داود ثقة حافظ مصنف السنن.
وأشار الدكتور منصور إلى أن الإمام أبا داود وهب حياته وجهده للعلم وتلاميذه الذين كانوا يتعلمون منه ويروون عنه، ومن أشهرهم: ابنه ابوبكر عبدالله بن أبي داود، وأبو عبدالرحمن النسائي، واحمد بن محمد الخلال، وأبو علي محمد بن أحمد الؤلؤي، واحمد بن سليمان النجار وهو آخر من روى عنه.
وتوفي الإمام أبو داود السجستاني في مدينة البصرة سنة 275 هجرية عن ثلاث وسبعين سنة، ودفن بجانب قبر الإمام سفيان.
ساحة النقاش