الحمد لله الذي أنعم علينا بالإسلام، وشرح صدورنا للإيمان، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، صلى الله عليه وسلم، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:

أخرج الإمام البخاري في صحيحه عن سعيد بن ميناء قال: سمعتُ أبا هريرة، رضي الله عنه، يقول: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: «لا عَدْوىَ ولا طِيرَةَ ولا هامةَ ولا صفر، وفِرَّ من المجذُوم كما تَفرُّ من الأسد»، (أخرجه البخاري).

هذا الحديث حديث صحيح أخرجه الإمام البخاري في صحيحه في كتاب الطب، باب الجُذام. لقد حرص رسولنا، صلى الله عليه وسلم، من خلال الحديث السابق أن نعلم بأن الدين الإسلامي ضد الأوهام والخرافات والتشاؤم، وأن نغرس جذور التوحيد والإيمان واليقين في قلوبنا وعقولنا، فنؤمن بأن الله عز وجل هو الذي يحيي ويميت، ويعزّ ويذل، ويخفض ويرفع، ويعطي ويمنع، بيده الخير وهو على كل شيء قدير، كما قال تعالى: (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)، «سورة آل عمران، الآية 26»، فالمؤمن الحق لا يتشاءم بالأشهر والأيام، لأن قلبه معلق بالله عز وجل، وهو مؤمن بأنه لا يأتي بالخير إلا الله، ولا يصرف السوء سواه.

 

التفاؤل بالخير

 

ومن الأمور التي ركّز عليها الإسلام في هذا المجال، الرضى بقضاء الله وقدره، والتفاؤل بالخير وعدم التشاؤم والتطيّر، حيث وردت عدة أحاديث شريفة تبين أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، كان يحب الفأل ويكره الطيرة، منها قوله، صلى الله عليه وسلم: «لا عدوى ولا طيرة، ويعجبني الفأْلُ، قالوا: وما الفأل، قال: الكلمة الطيبة»، (أخرجه الشيخان).

كما وكان، صلى الله عليه وسلم، يوجه أصحابه قائلاً: «يسِّروا ولا تعسِّروا، وبشِّروا ولا تنفِّروا»، (أخرجه البخاري)، ومن المعلوم أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، كان يعجبه التفاؤل وهذا هو الموافق للفطرة الإنسانية السليمة في محبتها للخير، أما صاحب النفس المريضة، فإنه يُبْتلى بالتشاؤم، فقد سأل الصحابي معاوية بن الحكم، رضي الله عنه، رسول الله، صلى الله عليه وسلم، من حديث طويل: «.... ومنّا أناسٌ يتطيرون، قال: ذلك شيءٌ يجده أحدكم في نفسه فلا يصدَّنَّكم» (أخرجه مسلم)، فالشعور بالتشاؤم نابعٌ من نفس الإنسان وهواجسه، ومن الجدير بالذكر أن القرآن الكريم قد أشار في أكثر من موطن إلى الأثر الطيب للتفاؤل والاستبشار.

التشاؤم

من المعلوم أن التشاؤم من شهر صفر كان مشهوراً في الجاهلية، ولا زالت بقاياه عند بعض الناس، حيث اعتاد بعض الجهلاء أن يتشاءموا من قدومه، فنراهم يُحجمون عن إنجاز أمورهم فيه، فلا يسافرون، ولا يتزوجون، ولا يتاجرون، ولا يبنون، ولا يبرمون أمراً هاماً، وكثيراً ما ساعدهم على هذا المعتقد الفاسد أحاديث موضوعة وضعها الأفَّاكون، منها ما روي كذباً وافتراء مثل: «بشروني عن أمتي بعد صفر»، وسبب تشاؤمهم منه أنه كان في الجاهلية يأتي في أعقاب الأشهر الحرم وهي رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرم، فإذا حَلَّ شهر صفر كَثُرَ القتال، وهاج بعضهم على بعض، وانتهكت الحُرُم، فيكثر القتلى والسبايا، ويصبح الناس في ذُعْرٍ لا نظيرَ له، لذلك فهم يتشاءمون منه، وقد أبطل الإسلام ذلك كله.

إن الأشهر والأعوام والأيام هي ظروف لأعمال العباد، فكيف يَصِحُّ في الأذهان أن تُغَيِّر الأشهر والأيام ما سطره الله عز وجل؟ إن الواقع الذي لا مِرْيَةَ فيه، أن التشاؤم بالأيام والتطير بالأشهر وغيرها هو خرافة واضحة البطلان، لا يعود عليها أو ينخدع بها إلا من اضطربت عقيدته وفقد الثقة بمواهبه.

فتح القسطنطينية

لقد أبطل الإسلام التشاؤم وأوجد البديل وهو التفاؤل، وحرّم اليأس وأوجد البديل وهو الأمل، فالليل مهما طال فلابُدَّ من بزوغ الفجر، ولا يجوز أن يسيطر التشاؤم على الإنسان المسلم، لأنه متفائل بطبعه، متوكلٌ على خالقه، والآيات والأحاديث التي تدعو إلى التفاؤل كثيرة منها: ما رواه عبد الله بن عمرو بن العاص، رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، سُئِلَ: يا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أي المدينتين تُفْتَح أولاً قسطنطينية أو روميه؟ قال: «مدينة هرقل تفتح أولاً»، (أخرجه الإمام أحمد)، ومن المعلوم أن رومية هي روما عاصمة إيطاليا، والقسطنطينية هي اسطنبول حالياً، والتي عرفت في التاريخ الإسلامي باسم إسلام بول، ويُفهم من السؤال أن الصحابة رضوان الله عليهم، كانوا قد علموا بأن المدينتين ستفتحان، لكنهم يريدون أن يعرفوا أي المدينتين تفتح قبل الأولى، فكان الجواب مدينة هرقل، القسطنطينية التي فتحها القائد المسلم محمد بن مراد المعروف في التاريخ باسم القائد محمد الفاتح، حيث فُتِحت مدينة هرقل في شهر جمادى الأولى سنة 857 هـ وفق شهر مايو (أيار) سنة 1453م، ومن المعلوم أن هذا الفتح العظيم كان بعد قرنين من دخول التتار بغداد وسقوط الخلافة، وظن الناس أن الإسلام قد هوى إلى الحضيض، ونسوا أن الإسلام لن ينتهي من هذه الدنيا لأنه يوم أن ينتهي الإسلام من هذه الدنيا فلن تكون هناك دنيا، لأن الشمس ستنطفئ والنجوم ستنكدر والحصاد الأخير سيطوي العالم أجمع، وبقي الشطر الثاني من البشرى وهو فتح رومية، وهذا ما سيحدث إن شاء الله، حيث إن الناس والحمد لله يدخلون في دين الله أفواجا، كما وأن الآلاف يعتنقون هذا الدين يومياً في أوروبا بفضل الله، وهذا ما أكده المفكر الأوروبي برناردشو عندما قال:

«إن العالم اليوم بحاجة إلى رجل مثل محمد، صلى الله عليه وسلم، يحل مشاكله وهو يشرب فنجاناً من القهوة»، وفي ذلك دلالة واضحة على أن العالم قَدْ يَئِسَ من جميع الأيدلوجيات الاشتراكية والرأسمالية، وما عليه إلا أن يدرس هذا الدين ويؤمن برسالة سيدنا محمد، صلى الله عليه وسلم، ويطبق مبادئ الإسلام، لتعيش البشرية حياة آمنة مطمئنة إن شاء الله.إن هذا الحديث الشريف يبعث الأمل والتفاؤل في النفوس، باتساع دولة الإسلام حتى تشمل المشارق والمغارب، أي: الأرض كلها إن شاء الله تعالى.

وعند دراستنا للسيرة النبوية الشريفة، فإننا نرى أمثلة من نور كلها تحث على التفاؤل، منها درس الهجرة، فهذا سراقة بن مالك يلحق بالنبي، صلى الله عليه وسلم، ليظفر بجائزة قريش مائة من الإبل لمن يأتي برسول الله صلى الله عليه وسلم حياً أو ميتاً، وعندما لَحِقَ سراقة بالنبي عليه الصلاة والسلام، دعا عليه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فساخت أقدام فرسه في رمال الصحراء، ثم قال له الرسول، عليه الصلاة والسلام: «يا سراقة عُدْ، وإنني أعدك بسواري كسرى» وفعلاً عاد سراقة.

ما الذي دفع الرسول، عليه الصلاة والسلام، إلى هذا القول؟ الذي دفعه إلى ذلك هو إيمانه، صلى الله عليه وسلم، بربه، وثقته بنصره، وأمله في نصر الله للمؤمنين، وفعلاً تحقق ذلك، ونفذ أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، عهد الرسول عليه الصلاة والسلام، وأعطى سراقةَ سواري كسرى عندما فتح المسلمون بلاد فارس.

الدكتور يوسف جمعة سلامة

خطيـب المسـجد الأقصـى المبـارك

المصدر: الاتحاد
  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 57 مشاهدة
نشرت فى 22 ديسمبر 2012 بواسطة alsanmeen

ساحة النقاش

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

1,277,305