قام متمرنون جدد في الأكاديمية السويدية للمترجمين الشباب بمتابعة دورة مكثَّفة لدراسة اللغات المعقّدة. المسألة لا ترتبط فقط بانضباطهم العسكري : فقد اكتشف المختصون أن الدراسة المكثَّفة للألسن الأجنبية تحفِّز نمو الحُصين، وتسبّب تغييراتٍ في بنية الدماغ. كما يساعد تعلُّم اللّغات أيضاً على الوقاية من مرض آلزاهايمر.
عُرض على الشباب في الأكاديمية السويدية دراسة لغةٍ من اللغات الثلاثة : العربية، الروسيّة أو الدارية (لغة الطاجيك الأفغان) لمدة 13 شهراً. وكان على الوافدين تعلّم اللغة طوال اليوم، ويومياً، بوتيرةٍ مكثّفةٍ جداً. وأعطى عملهم الشاق نتائج باهرة، بشكلٍ غير متوقّع. واستخدم الباحثون مجموعة من طلبة كلية الطب بجامعة أوميا Umeå للتحكم بسير البحوث. فمن المعروف عن الممرضات والأطباء دراستهم المكثفة والمطولة، إلا أن مواضيع دراستهم ليست لها أية علاقة مشتركة مع اللغات الأجنبية. وتلقت المجموعتان إختبارات التصوير بالرنين المغناطيسي قبل التجربة وبعد ثلاثة أشهرٍ من الدراسة في الموقع.
وكانت النتائج مفاجئة : بنية الدماغ عند أفراد المجموعة التي أشرفت على التجربة لم تتغيّر، ولكن الطلاب الذين درسوا لغةً أجنبية ، فإن بعض أجزاء الدماغ لديهم قد ازداد حجمها. ووجد الباحثون أن “النمو” كان ، على وجه الخصوص، في الحصين – وهي البنية العميقة من الدماغ المسؤولة عن تطوير معارف جديدة، والتكيّف مع الظروف ومعرفة الإتجاهات، وتقوية الذاكرة من المدى القصير إلى المدى البعيد.
يقول العلماء أن الدراسات تظهر أن للغات الأجنبية ما يقرب من تأثيرٍ خارق على الدماغ. والحقيقة أن دراسة الألسنة والكتابات غير المألوفة تجعل الدماغ يعمل بأقصى ما في وسعه. وعلى سبيل المثال، في عام 2010، وجد الباحثون في فلسطين المحتلة، بأن القراءة باللغة العربية تتطلّب مشاركة نصفي المخ في هذه العملية. إلا أن القراءة باللغة الإنجليزية أو العبرية لا تعطي هذا التأثير، على الرغم من أن هذه الأخيرة تنتمي إلى اللغات الساميّة.
ومن المثير للاهتمام، هو أن اللغة العربية تُظهر هذا التأثير فقط على أدمغة هؤلاء الناس ممن يدرسون هذه اللغة : الأطفال الذين يتعلّمون للتو الكتابة، والأجانب الذين يدرسون اللغة العربية في مرحلة البلوغ. إلا أنه عند الأشخاص الناطقين باللغة العربية الكبار في السن، فإن النصف الأيمن فقط من المخ هو الذي يشارك في عملية القراءة.
في عام 2004، قام علماء الأعصاب في University College London – كلية لندن الجامعية، وبمساعدة الرنين المغناطيسي، بفحص 105 أشخاص، 25 منهم يعرفون فقط الإنجليزية، و 25 آخرون يتحدثون الإنجليزية بالإضافة إلى لغةً أوروبية أخرى، وكان 33 منهم ثنائيو اللغة (كانوا يعرفون لغةً ثانية منذ الطفولة)، و22 جاؤوا من دولٍ أوروبية أخرى ويعرفون، ليس فقط لغتهم الأم، ولكن أيضاً اللغة الإنجليزية (باعتبارها لغةً أجنبية).
واكتشف العلماء أن جميع الأشخاص الذين شاركوا في الإختبار، وكانوا يعرفون لغتتين، قد زادت لديهم كثافة القشرة المخيّة في الجزء السفلي من الفص الجداري. وكانت تلك التغييرات على أشده مع المشاركين الذين تحدّثوا لغتين منذ الطفولة.
يقول الباحث أندريا ميشيللي، من معهد علم الأعصاب في كلية لندن الجامعية معلٌقاً حول النتائج :” وهذا يعني أن كبار السن من المتعلمين لن يكونوا بطلاقة الأشخاص الذين تعلّموا اللغة في وقتٍ سابقٍ من حياتهم. ولن يكونوا بالمستوى ذاته الذي يتمتع به الأشخاث ثنائيو اللغة، الذين تعلموا في وقت مبكر، على سبيل المثال، في سن الخامسة وقبل بلوغ العاشرة من عمرهم”.
مع ذلك، وعلى الرغم من هذا الاستنتاج العلمي، يمكن تعلّم لغة جديدة ، في مرحلة البلوغ ، وحتى في سن الشيخوخة، وسوف يعود ذلك بالكثير من الخير على صاحبه.
ويقول باحثون أمريكيون أن الموظفين الذين يعرفون لغةً أجنبية يمكنهم التعامل مع المهام العقلية أفضل من أولئك الذين يتحدثون فقط لغتهم الأم. إن ثنائيي اللغة يركّزون على المعلومات ذات الصلة بالموضوع الذي يعملون عليه فقط. ويتجاهلون المعلومات غير المتصلة به، وبالتالي يكون آداءهم أفضل في إختبارات القدرة الفكرية ، وتكون كذلك إنجازاتهم في العمل أفضل. على سبيل المثال، يمكن لأولئك الذين يعرفون لغاتٍ إضافية أن يعطوا الأولوية للأعمال بشكلٍ فعّال، وأن يعملوا على أكثر من مشروع في وقتٍ واحد بنجاح.
ويشرح الباحثون ذلك بقولهم :” الميزة الرئيسية للأشخاص الذين يعرفون لغتين، هي القدرة على الدخول في العديد من الحالات في الوقت ذاته”. فالحاجة إلى التبديل بين لغتين تمكّن الأشخاص الذين يتحدثون لغتان تدريب الدماغ باستمرار. وهذا التدريب أو التمرين ليس في متناول أولئك الذين يتحدّثون لغةً واحدة فقط.
ساحة النقاش