بين الفينة والأخرى أجدني غارقاً غائصاً في درة من درر معاجم اللغة «مقاييس اللغة» لابن فارس، أعبر من مفردة إلى أخرى، دون إحساس بالوقت، ومما أعجبني معاني «عبر» فالعبر يدلُّ على النفوذ والمضيّ في الشيء. يقال: عَبَرت النّهرَ عُبُورًا، وعَبْر النهر: شَطُّه؛ ويقال: ناقةٌ عُبْرُ أسفار: لا يزال يُسافَرُ عليها، قال الطّرِمّاح:
قد تبطَّنْتُ بِهِلْوَاعةٍ عُبْرِ أسفارٍ كَتُوم البُغَامْ
والمَعْبَر: شطّ نهرٍ هُيّء للعُبور. والمِعْبَر: سفينة يُعبَر عليها النّهر. ورجل عابرُ سبيلٍ، أي مارّ، قال الله تعالى: (وَلاَ جُنُبًا إلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ). ومن الباب العَبْرَة، وعَبْرَة الدمع: جَرْيُه، والدَّمع أيضاً نفسُه عَبْرَة، قال امرؤ القيس:
وإنّ شِفائي عَبْرَةٌ إن سَفَحتُها فهلْ عند رسْمٍ دارسٍ من مُعَوَّلِ
وهذا من القياس، لأنَّ الدّمع يعبُرُ، أي ينفُذ ويَجري. وقولهم: عَبِرَ فلانٌ يَعْبَرُ عَبَراً من الحزن، وهو عَبْرَانُ، والمرأة عَبْرَى وعَبِرَةٌ، فهذا لا يكون إلاَّ وثَمَّ بكاء؛ ويقال: استَعْبَرَ، إذا جَرَتْ عَبْرَتُه، ويقال من هذا: امرأة عابر، أي بها العَبَر. وعَبَرَ الرُّؤْيا يعبرها عَبْراً وعِبارة، ويُعبّرُها تعبيرًا، إذا فسَّرَها، ووجه القياس في هذا عُبُور النَّهْر، لأنه يصير من عَبْر إلى عَبْر؛ كذلك مفسّر الرُّؤيا يأخذ بها من وجه إلى وجه، كأن يُسأل عن الماء، فيقول: حياة، ألا تراه قد عَبَر في هذا من شيءٍ إلى شيء.
وعَبَّرت عن فلانٍ تعبيراً، إذا عَيَّ بحُجّته فتكلَّمت بها عنه، لأنّه لم يقدِر على النُّفوذ في كلامه فنفَذَ الآخَر بها عنه.
فأمّا الاعتبار والعِبْرة فمقيسانِ من عِبْرِيْ النهر، لأن كل واحد منهما عِبرٌ مساوٍ لصاحبه: فذاك عِبرٌ لهذا، وهذا عِبرٌ لذاك، فإذا قلت اعتبرت الشَّيء، فكأنك نظرتَ إلى الشَّيء فجعلتَ ما يَعْنِيك عِبراً لذاك، فتساويا عندك، هذا عندنا اشتقاقُ الاعتبار؛ قال الله تعالى: «فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي اْلأبْصَارَ»، كأنّه قال: انظروا إلى مَنْ فعل ما فَعل فعُوقِب بما عوقب به، فتجنَّبوا مثلَ صنيعهم لئلاَّ ينْزل بكم مثلُ ما نَزَل بأولئك.. والعِبرة: الاعتبارُ بما مضى.
البحتري:
رَحَلُــــوا فَأيّــةُ عَبرَةٍ لَــــمْ تُسْكَبِ
أسَفـــاً، وَأيُّ عَزِيمَــــةٍ لَــــــمْ تُغْلَبِ
قـــــَدْ بَيّنَ البَينُ المُفَـــــرِّقُ بَيْنَنَا
عِشْقَ النّــــوَى لرَبيبِ ذاكَ الرّبــــرَبِ
صَدَقَ الغُرَابُ لقد رَأيتُ شُموسَهمْ
بالأمسِ، تَغرُبُ في جَوَانــــِبِ غُـــرَّبِ
لَوْ كُنتَ شاهدَنــا وَمَا صَنَعَ الهَوَى
بقُلُوبِنــــَا، لحَسَدْتَ مَنْ لــــم يُحبِبِ
شُغـــــلَ الرّقيبُ، وَأسْعَدَتْنَا خَلْوَةٌ
في هَجـرِ هَجــــرٍ، وَاجتِنــــابِ تجَنّبِ
فتَلَجلَجتْ عَبَرَاتُهـــَا، ثــــمّ انْبَرَتْ
تَصِفُ الهَوَى بلِســـانِ دَمـــعٍ مُعْرِبِ
ساحة النقاش