لا يمكن لأي دارس أو باحث في تاريخ العربي أن يتجاهل الشعر كفن من فنون القول التي برع فيها العرب، فكتبوا أجمل المعلقات، مرصعة بالذهب ما زالت حية تتناقلها الألسن إلى اليوم. سَمِع أعرابي رجلاً يُنشِد شِعْراً لنفسه، فقال: كيف تَرَى قال: سُكر لا حَلاوةَ له. وقيل لبعض علماء اللغة: أرأيتَ الشاعرين يجتمعان على المعنى الواحد في لفظ واحد فقال: عُقول رجالٍ تَوَافت على ألسنتها.
وقال الطائي يذكر الشعر:
إن القـَوافِيَ والمَسَـاعِيَ لم تَـزَلْ مِثلَ النظَام إذا أصـابَ فَـريدا
من أجل ذلك كانتِ العربُ الألَى يَدْعُون هذا سُؤْدداً مَحـمُودا
وتَنِــد عندهـمُ الـعُـلا إلا عُـلاً جُعلت لها مِرَرُ القـَرِيض قُيُودا
وقال أيضاً:
وإنّ العُــلاَ مـا لم تَـر الشـعر بينهــا
لكالأرض غُفْـلاً ليس فيها مَعـَـالِمُ
وما هـو إلا القـولُ يَسْـرِي فيغـتدِي
لـه غُــــرَرٌ في أوجــهٍ ومَـواسِــــــمُ
يرى حكـْــمـةً ما فيه وهـو فُكَـاهـةٌ
ويُقْـضَى لما يَقْضـي له وهو ظــالمُ
ولولا خـِلالٌ سَــنَها الشــعرُ ما دَرَى
بُغـاةُ العُــلاَ من أينَ تُؤْتَى المكـارمُ
وقيل لكثير: يا أبا صَخْر، كيف تصنع إذا عسر عليك قولُ الشعر، قال: أطوف بالرِّباع المُخْلِيَة والرياض المُعشِبة، فيسهُل عليّ أرْصَنُه وشُرع إليّ أحسنُه.
ويقال: إنه لم يُستَدْعَ شارِدُ الشعر بمثل الماء الجاري، والشَّرَف العالي، والمكان الخَضِر الخالي أو الحالي.
وقال عبد الملك بن مروان لأرْطَاةَ بن سُهَيّة: هل تقول الآن شعراً، قال: ما أشرَب، ولا أطْرَب، ولا أغْضَب؛ وإنما يكون الشعر بواحدة من هذه. وقيل لكُثَيِّر: ما بَقِيَ من شِعرك، فقال: ماتت عَزّة فما أطرب، وذهب الشَبَابُ فما أعْجَب، ومات ابن ليلى فما أرغَب - يعني عبدَ العزيز بن مَرْوان - وإنما الشعر بهذه الخِلالَ. وقيل لبعضهم: من أشعرُ الناس فقال: امرؤُ القيس إذا رَكِب، والنابغة إذا رَهِب، وزهير إذا رَغِب، والأعشى إذا طَرِب. وقيل للعجّاج: إنك لا تُحسِن الهجاء، فقال: إن لنا أحلاماً تمنعنا من أن نَظْلِمَ، وأحسابا تمنعُنا من أن نُظْلَمَ، وهل رأيتَ بانِياً لا يُحسِن أن يَهْدِم!
ويصف بَشّار بن برد نفسَه:
زَوْرُ مُـلـوكٍ عـلـيـه ابَّــهَــــةٌ يُعرفُ من شِـعره ومن خُطَـبِهْ
للـه مـا راح فـي جَـوَانـحـــهِ من لُؤْلُـؤ لا يُنـام عــن طَـلـبِـهْ
يَخرُجْن من فـيه فـي النَدي كما يِخرُج ضوءُ السراج من لَهَبِهْ
ترنُـو إلـيه الحُـداثُ غــاديةً ولا تَمَـلُّ الحديثَ مـن عَـجَـبِـهْ
تِلْعَابةٌ تَعـكُـفُ الـملوكُ بـه تأخـذ من جِــده ومـن لَـعِــبِـهْ
يَزدحِـمُ الـنـاس كلّ شـارقةٍ ببابـه مُـســـرعـينَ فـي أدبِــهْ
ساحة النقاش