يحتاج الإنسان لإنسان عزيز يبوح له بأشجانه وأسراره، يسرّي بها عن همّ وغمّ، ومع تقدم وسائل التواصل والاتصال، باتت الأسرار في خطر، وصارت الحركات والسكنات وأنفاسنا مكشوفة معدودة، وربما في بث حي ومباشر دون أن ندري! ومع هذا التهافت على كل ما هو جديد، نسينا أو تناسينا أن إفشاء الأسرار ربما يخرب البيوت، بوعي وبلا وعي منا أحياناً. قالوا‏:‏ سرك من دمك فانظر أين تريقه‏، أي أنه ربما كان في إفشائه سفك دمك‏.‏ وكتب عبد الملك بن مروان إلى الحجاج بن يوسف‏:‏ ولا تفش سرك إلا إليك فإن لكل نصيح نصيحا فإني رأيت غواة الرجال لا يتركون أديماً صحيحاً. وقال الحكماء:‏ ما كنت كاتمه من عدوك فلا تطلع عليه صديقك‏.‏ وقال عمرو بن العاص‏:‏ ما استودعت رجلاً سراً فأفشاه فلمته لأني كنت أضيق صدراً منه حين استودعته إياه حتى أفشاه‏.‏

إذا ضاق صدر المرء عـــــــن سر نفسه

فصدر الذي يستودع السر أضيـق

قيل لأعرابي‏:‏ كيف كتمانك للسر: قال أجحد المخبر وأحلف للمستخبر‏.‏ وقيل لآخر‏:‏ كيف كتمانك للسر قال‏:‏ ما قلبي له إلا قبر‏.‏ وقال الوليد بن عتبة لأبيه‏:‏ إن أمير المؤمنين أسرّ إلي حديثاً ولا أراه يطوي عنك أفلا أحدثك به قال‏:‏ لا يا بني إنه من كتم سره كان الخيار له ومن أفشاه كان الخيار عليه فلا تكن مملوكاً بعد أن كنت مالكاً‏.‏

ومن أحسن ما قالت الشعراء في السر قول عمر بن أبي ربيعة‏:‏

فقالت وأرخت جانب الستر إنما

معي فتحدث غير ذي رقبة أهلي

فقلت لها ما بي لهم من ترقــب

ولكن سرى ليس يحملــــه مثلي

وقال أبو محجن الثقفي‏:‏

قد أطعن الطعنة النجلاء عن عرض

وأكتم الســر فيه ضربــــة العنق

قال زياد لحاجبه عجلان‏:‏ كيف تأذن للناس قال‏:‏ على البيوتات ثم على الأسنان ثم على الآداب‏.‏

وقال الحطيئة يهجو‏:‏

جَزَاكِ اللّه شَرًّا من عَجُـــوز ولَقَّاكِ الْعُقُوقَ مـن البَنِينَا

تَنَحَّيْ فاقْعُدِي مني بعيــدا أراحَ اللّه منكِ العالَمِينَــــا

أغرْبَالاً إذَا اسْتُودِعْتِ سِـرًّا وَكانُونــــَا عَلَى المتحدِّثينا

ألم أظهِرْ لكِ الشَّحْناء مِـنِّي ولكـــن لا إخَالُكِ تَعْقِلينَا

حَيَاتُكِ ما علمتُ حيَاةُ سُوءٍ وَمَوْتُكِ قد يَسُرُّ الصالحينا

الشافعي:

إذا المرءُ أفشى سـرَّهُ بلسانــــــــهِ

وَلاَمَ عَليهِ غَيْرَهُ فهو أَحْمـــــــــــَق

إذا ضاقَ صدر المرءِ عن سرِّ نفسهِ

فصدرُ الذي يستودعُ السرَّ أضيــق