جارى التحميل
استخدم زر ESC أو رجوع للعودة
إبراهيم بن محمد الحقيل
|
بسم الله الرحمن الرحيم
كل يوم يمضي على الثورة السورية مع حجم التآمر العالمي عليها يرسخ أن هذه الثورة ربانية، وأن مددها رباني، وأن بقاءها بأمر رباني، وأن البشر مهما بلغت قوتهم وحيلتهم يعجزون عن تدبير أمر كهذا، بغض النظر عن توجهات الثوار السوريين وكونهم خليطا من الأبرار والفجار؛ فإن الله تعالى يؤيد دينه بالرجل الفاجر وإن لم يرد ذلك.
لقد اندلعت ثورتا تونس ومصر ووقف الجيش فيهما على الحياد، فلما غلب الثوار قوات الأمن الداخلي والأمن الرئاسي سقط النظامان.
واندلعت الثورة في ليبيا فحرك القذافي جيشه ليبيد الليبيين، واستأجر مرتزقة إفريقيا ليقتلوا بلا رحمة ولا هوادة حتى تدخل حلف الأطلسي بقيادة فرنسا للكسب من ليبيا النفطية المتاخمة لأوربا، فسقط النظام العبيدي وسُحل القذافي.
واندلعت ثورة اليمن فكان للتركيبة القبلية وامتلاك اليمنيين للسلاح أثر في التوازنات والتكافؤ بين قبيلة الرئيس والقبائل المعارضة، ورغم الرشاوى الضخمة من الرئيس ومن بعض دول الخليج لوأد الثورة فإن الثورة نجحت واستطاعت أن تطيح بالرئيس.
لكن ثورة سوريا غير كل الثورات، ووزنها الاستراتيجي يعدل كل الثورات السابقة عليها ويرجح بها؛ لأنه لا يقتلع نظاما طاغوتيا فحسب كما في الثورات الأخرى، ولا يمنح الحرية لشعب واحد، وإنما سيغير التركيبة الإقليمية للمنطقة بأسرها، ويعيد توازنات القوى فيها، ويلخبط حسابات الغرب والصفويين والصهاينة الانتهازية التآمرية على الأمة المحمدية؛ ولذا رمت الدول الشيوعية، والدولة الشيعية بأذرعتها المختلفة.. رمت بثقلها كله خلف النظام النصيري لحفظه من السقوط، وتآمر الغرب الديمقراطي وصاحبة النفاق الأكبر أمريكا سياسيا على تجفيف منابع الثورة، وتكتيف أيدي الدول التي لها مصلحة في سقوط النظام النصيري حتى مُنع جمع البطانيات لتدفئة اللاجئين السوريين!!
ومبادرات الغرب من سيء الذكر العربي مرورا بالعجوز الأسمر أنان وانتهاء بالأشيمط الفاشل الإبراهيمي تدل على أن الغرب يريد من النظام الخبيث وحلفائه الروس والصينيين والصفويين وخدامهم أن يبيدوا الشعب السوري عن بكرة أبيه، وإلا فالمقاطع المسربة من النصيريين، من قتل وتمثيل بالجثث، وسحل في الشوارع بالسيارات والدراجات، وتقطيع الأطفال وتعذيبهم لا يمكن أن يسكت العالم عنها، والغرب يمتلك إيقافها في لحظة لولا أن الثورة تجري على غير هواه وهوى ربيبته إسرائيل.
وبهذا صار الثوار السوريون يواجهون العالم كله، وهم عزل إلا من سلاح قليل يشتريه لهم بعض المحسنين متخفين عن أعين حكوماتهم وأعين المخابرات الدولية، وسلاح يغنمونه من عدوهم، في حين أن النظام النصيري يمتلك سلاح الجو والبحر والقوات البرية إضافة إلى قرابة عشرين جهاز أمن ومخابرات بنيت من قوت الشعب خلال أربعة عقود، وجسور جوية من طهران تمد النظام، وناقلات بحرية تنطلق من روسيا لتفرغ مخزونها من السلاح العتاد في ميناء طرطوس. فلا غرابة في أن يواجه الشاميون هذه التحديات كلها وحدهم، ولا عجب في أن تكون ثورتهم متناغمة مع فضلهم الثابت في الأحاديث الكثيرة.
لقد أراد الله تعالى أن يذل هذا النظام الطاغوتي المخابراتي الخبيث على أيدي أضعف عباده، فانطلقت الثورة على أيدي الأطفال، وغذاها الأطفال بدمائهم، وصمدوا في وجه الطاغوت، وبصق أشهرهم وهو تحت التعذيب بكل جرأة وشجاعة وعزة وإباء على صورة الرئيس الباطني الذي عبّد البشر لنفسه من دون الله تعالى، ليُقطع الطفل ويمثل بجسده الطاهر في مشهد إيماني يذكر بوقوف موسى عليه السلام أمام فرعون، وتحدي غلام الأخدود للطاغية الذي أحرق الناس. فيستحيي الشباب والرجال لما رأوا فعل الأطفال فتشتعل الشام عزة وإباء تحت أقدام النصيرية الخبثاء، وتمتد نار الثورة لتحاصر الطاغوت في قصره، وإن أجل حكمه قد اقترب بإذن الله تعالى.
والعجيب في ثورة الشام المباركة أنها حطمت إمبراطورية الرعب المخابراتية التي بناها الهالك حافظ الأسد، وقد كانت تصل إلى المعارضين في أي مكان من الأرض فتقتلهم أو تختطفهم، حتى عاش السوريون أعظم رعب يمكن أن يتصور طيلة حياتهم، فتراهم في أوربا وأمريكا لاجئين محميين لكنهم لا ينطقون بكلمة تجاه النظام، بل بعضهم يتكلف الدفاع عنه وقد قتل النظام أبناءه وسجنهم، يريد أن يستبقي نفسه وبقية أسرته، لعلمه أن مخابرات النظام تطوله في أي مكان، وأن الحماية الأوربية والأمريكية لن تنفعه.
وما الظن بنظام قبض على شاب كاثوليكي النسبة، ملحد الديانة، ذاق مرارة السجن في تدمر عقدا من الزمن لا يدري لم سجن!! ويرى الموت كل يوم؛ لمجرد أنه قال نكتة في حافظ الأسد قبل اعتقاله بخمس سنوات في ملهى ليلي في فرنسا وهو يحتسي الخمر، ولم يستطع خاله وكان وزيرا للداخلية أن يخرجه من السجن إلا بعد أن وقع عنه تعهدات وأوراق تثبت ولاءه للنظام، فلم تنس المخابرات نكتته في الرئيس رغم مرور خمس سنوات عليها، ولم تعذره لأنه كان تحت تأثير الخمر، ودفع من عمره جزاء للنكتة عقدا من الزمن، ومخابرات وصلت إلى ملهى ليلي في فرنسا فسجلت نكتة على شاب مخمور لن تعجز عن الوصول إلى غيره.
وقد حدثني أحد الشاميين أن حافظ الأسد لما تولى السلطة عقب الانقلاب أحضر ضابطا من القوات الجوية كان رئيسا على حافظ الأسد قبل الانقلاب، وبينهما خصومة، وجمع الضباط وأوقف الضابط أمامهم وجيء بمنشار فنشر الضابط نصفين من وسط رأسه إلى مفرق قدميه أمام الحضور ليبقى المشهد الدموي المرعب في أذهانهم.
واشتهرت بركة الأسيد التي كان المعارضون يُعلقون فوقها وينزلون فيها شيئا شيئا حتى يأكل الأسيد الجسد بلحمه وعظمه فلا يبقى منه أثر وحافظ الأسد لعنه الله تعالى يتشفى فيهم ويحتسي قهوته على هذا المنظر.
لقد جند النظام الأسدي المخابراتي المدير ضد موظفيه، والموظف ضد مديره، والطالب ضد مدرسه، والمدرس ضد طلابه، بل والأخ ضد شقيقه، والابن ضد أبيه، والزوجة ضد زوجها، في حالة من الرعب والرهبة تجعل السوري يخاف أن يهذي في الحلم بشيء يبلغ عنه به فتأخذه المخابرات.
وحدثني من زار مخيمات اللاجئين أن الرجل منهم لا ينطق بشيء أمام زوجته يخاف أن تكون متعاونة مع المخابرات رغم أنهم قد هربوا من سوريا، فإذا خلا به وحده تكلم بأريحية عن مشاهداته داخل السجون السورية.
وفي سجن تدمر صورة لضابط مشنوق، كان هذا الضابط في ذات السجن، وكان فيه شيء من الشفقة الفطرية على السجناء لم يستطع التخلص منها، فكان تعذيبه للسجناء أقل من أمثاله من الضباط، فشُنق بتهمة الخيانة، وعلقت صورته في مكتب السجن حتى إذا جاء ضباط وجنود جدد كرسوا أوقاتهم في التعذيب، فإن نازعتهم الرحمة الفطرية مثلت أمامهم صورة الضابط المشنوق فتحسسوا رقابهم، واجتهدوا في تعذيب سجنائهم.
وفي أوائل الثورة السورية دهمت المخابرات السورية بيت امرأة كهلة لها ثلاثة أبناء من نشطاء الثورة، وكانت امرأة قوية القلب والجسد، فاستطاعت أن تخفي أولادها وأن تتماسك أمام رجال المخابرات وتنكر وجودهم، فخرج عناصر المخابرات من المنزل دقائق ثم عادوا وبصحبتهم رجل يلبس قناعا يغطي وجهه، فدخل غرفة بها خزانة ملابس كبيرة وأشار إلى عناصر الأمن أن يزيحوا الخزانة من مكانها ليظهر باب صغير جدا لمستودع صغير حشرت المرأة أبناءها الثلاثة فيه وسحبت الخزانة لتغطي البوابة، فقبضوا على الثلاثة، فهجمت الأم على الرجل المقنع وشدت قناعه حتى أزالته لتكتشف أنه أخوها وخال أولادها، فتنهار بعد ذلك.
لا أظن أن نظاما في العالم يملك قرابة عشرين نظام مخابراتي تتجسس على الشعب كله في داخل سوريا وخارجها، وتجند العملاء في كل مكان، ويتجسس بعضها على بعض، ومهمتها زرع الرعب في قلوب البشر، ومع ذلك استطاعت الثورة السورية أن تكسر هيبة هذه الأجهزة المتعددة، وأن تعري إمبراطورية الرعب، وأن تقلب رعبها عليها، وأن تجعل الحكومات الطاغوتية الظالمة تعيد حساباتها في الاعتماد على مخابراتها، وأن تثبت للعالم كله أن الشعوب إذا هبت فلن يقف في وجهها شيء، وإن نظرية الرعب قد انقلبت رأسا على عقب؛ لتنتقل ملكية الرعب من الحكومات ومخابراتها إلى الشعوب، وصارت الشعوب مصدر الرعب، وأضحت الحكومات ومخابراتها مرعوبة من الشعوب، وإذا أراد الله تعالى أمرا قال له كن فيكون [وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ] {يوسف:21}.
|
المصدر: صيد الفوائد
ساحة النقاش