قبل دخوله الاستديو لتقديم الحلقة الأولى من برنامجه الجدلي” “الاتجاه المعاكس “حزم أمتعته تحسباً أن يطلب منه مغادرة الدوحة بلا عودة، هكذا يسترجع فيصل القاسم المرة الأولى التي تجرأ فيها برنامج عربي على كسر قيود لجمت الإعلام والإعلاميين العرب على مدى عقود طويلة. هذه الحلقة بالذات كانت مثار جدل واسع في العالم العربي ولا سيما أنها المناسبة الأولى التي يوضع فيها موضوعٌ حساسٌ كمجلس التعاون الخليجي على المحك بل إنها المرة الأولى التي يترك فيها المجال لطرفين متعارضين للنقاش على الهواء دون رقابة وهكذا كان الاتجاه المعاكس الذي بدأ وما زال منبراً للحرية غير المألوفة في العالم العربي.
فيصل القاسم: مقدم برنامج الاتجاه المعاكس
يقول القاسم”: الاتجاه المعاكس بات اليوم وجهة كل من يريد إيصال رأيه وموقفه للشارع العربي ودحض ادعاءات خصمه، وأقر بأني في كل حلقة أحاول أن أختار أكثر الشخصيات استعداداً وحدَّة وقدرة على الجدل ومقارعة الحجج فحين يكون الخصمان متكافئين يتحقق هدف البرنامج. كما نلجأ إلى وسائل الإعلام الجديد للحفاظ على التجدد ومراقبة ردود فعل المشاهدين والتفاعل معهم لاختيار مواضيع الحلقات والضيوف. “
تاريخ الحرية يكتب بالدم
لا ينكر فيصل القاسم أن التحدي والجرأة اللذين تنتهجهما الجزيرة وبشكل خاص الاتجاه المعاكس كان لهما ثمن باهظ إلا أن ما نجحت الجزيرة في تحقيقه لا يقارن بأي ثمن، فهي لعبت دوراً تاريخيا مؤثراً في الحراك الاجتماعي والسياسي وثورات الربيع العربي. يستطرد في هذا الجانب فيقول: “نجحت الجزيرة في سلخ مقدَّسات اجتماعية وسياسية طمست الصوت العربي لزمن طويل، وتجرأت على انتقاد الحكومات والأنظمة البالية وفتح آفاق جديدة للمجتمع والفكر العربي. فكان الاتجاه المعاكس أول من جمع العلمانيين بالإسلاميين وأول من طرح موضوعاً دينياً حساساً للنقاش ووقف على أخطاء بل وحتى جرائم أنظمة حكومية وسماها بعينها”. ويتذكر القاسم عدداً من الذين تعرضوا للضغوط بسبب ظهورهم في برنامجه وباتوا يقبعون في السجون لعقود طويلة أو تعرضوا للضرب والتعذيب والإقامة القسرية “أذكر على سبيل المثال سعود الهاشمي وهو من كبار المفكرين في السعودية والشيخ محمد الفزازي من المغرب والشيخ عبد الرحمن كوكي من سوريا”. أما على الصعيد الشخصي، فقد حقق فيصل القاسم حلم حياته بالشهرة بأن أصبح أحد أبرز الإعلاميين كما صنفته العديد من الصحف والأطروحات الأكاديمية والمقالات التي كتبت في تحليل ونقد البرنامج كأكثر مذيع إثارة للجدل في الإعلام العربي وأحد أكثر عشرين شخصية تأثيراً في العالم حسب عدد من الاستفتاءات العالمية وفق قوله. في المقابل يواجه فيصل تحديات جمة وصلت إلى تهديده بل وحتى تكفيره لتناوله قضايا العلمانية والإسلام، ومن جانب آخر أصبح على القائمة السوداء في العديد من الدول العربية حتى إن عائلته لم تسلم من المضايقات والترحيل في بعض المناسبات
.
تألق مستمر
على مدى خمسة عشر عاماً لم يفقد الاتجاه المعاكس رونقه فهو متجدد بتجدد المسائل وشؤون الشارع والإنسان العربي، بل إن جمهوره في تزايد مستمر وفق الاستفتاءات الدقيقة التي أجرتها شركة نيلسون عام 2008 . ويعلق فيصل على ذلك بقوله: “لقد ازدادت شعبية الجزيرة على مر السنوات حتى فاقت عشرات الملايين من المشاهدين من المحيط إلى الخليج، وأنا شخصياً أعد هذه مسؤولية كبيرة تقع على عاتقنا فيجب أن نواكب تطلعات هؤلاء المشاهدين ونعمل من أجلهم فهؤلاء هم جمهور الجزيرة ولا يمكن أن نخذلهم. أنا مع ظهور محطات تنافس الجزيرة لأن المنافسة تشحذ الهمم وتدفعك إلى الأمام وتجعلك في حالة تأهب”.
الخطوة الأولى على طريق النجاح
الرحلة اليومية من وإلى المدرسة كانت بالنسبة لفيصل القاسم أشبه بمسلسل طويل من الشقاء فكانت أمه تقصد الجيران كل صباح تستدين ربع ليرة “سورية” ثمن تذكرة الحافلة فهو ينتمي لعائلة سورية بسيطة الحال لم تكن تمتلك أساسيات الحياة الكريمة. بعد إتمامه المرحلة الإعدادية حاول أهله أن يرسلوه لمدرسة التمريض والمدرسة الصناعية والجيش حتى يعمل في أقرب وقت ويتمكن من بيت العائلة القديم في السويداء مع والده مساعدتهم إلا أنه رُفض فيها جميعاً لصغر سنه. عاد فيصل كسير الخاطر ليتم دراسة الثانوية العامة فتفوق فيها ومن ثم درس الأدب الإنجليزي وتخرج الأول على دفعته في جامعة دمشق ليخطّ له القدر مساراً آخر عبر إيفاده لإكمال الدكتوراة في بريطانيا. يتذكر فيصل أيام الشباب: “تولدت لدي رغبة عارمة في تحقيق الذات وهوس بالشهرة والإعلام منذ أن بلغت خمسة عشر ربيعاً، راودني حلم زيارة مبنى الإذاعة والتلفزيون في دمشق سنوات طويلة وبدأت بمراسلة الإذاعات العربية كي أسمع اسمي يقرأ على الهواء”. كان لا يتوانى عن المشاركة بالعزف على الناي )الشبابة( في احتفالات القرية حتى يشار له بالبنان. هذا الوضع العصيب ومحيطه الاجتماعي المليء بالسخرية والتهكم كان دافعاً له للانطلاق بحثاً عن مخرج من جحيم الفقر والانكسار.
مفاجآت العام الجديد
خلال دراسته في بريطانيا دعاه أحد أصدقائه والذي كان يعمل في هيئة الإذاعة البريطانية لحضور الحفل الذي تقيمه الهيئة بمناسبة العام الميلادي الجديد. هذا اليوم كان نقطة تحول رئيسة في حياة فيصل القاسم ويثير لديه كثيراً من الشجون، يقول عن ذلك: “لم أصدق نفسي حين وصلت إلى مقر البي بي سي، تعرفت على المذيعين الذين كنت أعشق الاستماع لهم وقابلت مدير عام هيئة الإذاعة البريطانية الذي أعجب بلغتي الإنجليزية لدرجة أن عرض علي الانضمام لهيئة الإذاعة البريطانية.. فشعرت أني أعيش حلماً خاصة أن أقصى طموحي كان أن أصبح مذيعاً للنشرة الجوية في مجاهل أفريقيا”. وبعد ثماني سنوات من عمله في هيئة الإذاعة البريطانية وقع عليه الاختيار لإجراء اختبار لمشروع القناة التلفزيونية التي ستطلقها الهيئة. وكان اختبار التجربة يتطلب وضع الماكياج اللازم للتصوير التلفيزيوني فساعدته زوجته بأن وضعت له من مكياجها ليذهب للاختبار وهناك تفاجأ بمشاركة مجموعة من الإعلاميين المخضرمين في الاختبار فلم يتفاءل بأن يقع الاختيار عليه. إلا أنه بعد أسبوع تم إعلامه باختياره ضمن فريق تلفزيون البي بي سي ليعمل فيه لسنتين قبل أن تغلق القناة ويجد نفسه بلا عمل. المعلم الأبرز في حياة القاسم كان عندما اتصل به محمد جاسم العلي؛ مدير الجزيرة آنذاك، ليعلمه بإنشاء قناة إخبارية مقرها دولة قطر وعرض عليه الانضمام لفريق الجزيرة.
يقول فيصل: كنت غاية في التردد بدء الأمر حيث لم تكن هوية الجزيرة أو حدود حريتها واضحة، وتخوفت من أن أخلف خبرتي مع الإعلام الإخباري المستقل بتجربة منقوصة في قناة إعلامية تقليدية. ولكن أكد لي مدير الجزيرة بأن هذه القناة ستكون مختلفة، فقررت أن أخوض التجربة وهكذا كانت بدايتي مع الجزيرة وبداية حقبة الإعلام العربي الحر والفاعل”.
ساحة النقاش