قدم جرير المدينة، فاجتمع إليه الناس يستنشدونه ويسألونه عن شعره، فينشدهم ويأخذون عنه وينصرفون، ولزمه أشعب من بينهم فلم يفارقه، فقال له جرير: أراك أطولهم جلوساً وأكثرهم سؤالاً، وإني لأظنك آلامهم حسباً، فقال له: يا أبا حزرة، أنا والله أنفعهم لك، قال: وكيف ذلك؟ قال: أنا آخذ شعرك فأحسنه وأجوده، قال: كيف تحسنه وتجوده؟ قال: فاندفع فغناه في شعره والغناء لابن سريج:
يا أخت ناجية السلام عليكم قبل الرحيل وقبل لوم العـدلِ
لو كنت أعلم أن آخر عهدكـم يوم الرحيل فعلت ما لم أفعلِ
قال: فطرب جرير حتى بكى وجعل يزحف إليه حتى لصقت ركبته بركبته وقال: أشهد أنك تحسنه وتجوده، فأعطاه من شعره ما أراد، ووصله بدنانير وكسوة. وقال الهيثم بن عدي: لقيت أشعب فقلت له: كيف ترى أهل زمانك هذا؟
قال: يسألون عن أحاديث الملوك ويعطون إعطاء العبيد.
أشعب وأم عمر بنت مروان حجت أم عمر بنت مروان فاستحجبت أشعب وقالت له: أنت أعرف الناس بأهل المدينة، فأذن لهم على مراتبهم، وجلست لهم ملياً، ثم قامت فدخلت القائلة، فجاء طويس فقال لأشعب: استأذن لي على أم عمر، فقال: ما زالت جالسة وقد دخلت، فقال له: يا أشعب ملكت يومين فلم تفت بعرتين ولم تقطع شعرتين، فدق أشعب الباب ودخل إليها، فقال لها: أنشدك الله يا ابنة مروان، هذا طويس بالباب فلا تتعرضي للسانه ولا تعرضيني، فأذنت له، فلما دخل إليها قال لها: والله لئن كان بابك غلقاً لقد كان باب أبيك فلقاً، ثم أخرج دفه ونقر به وغنى:
ما تمنعني يقظي فقد تؤتينه في النوم غير مصر محســـــوب
كان المنى بلقائها فلقيتهــا فلهوت من لهو امرئ مكذوب
قالت: أيهما أحب إليك العاجل أم الآجل؟ فقال: عاجل وآجل، فأمرت له بكسوة.
قيس بن الملوح:
ألا يــــا غراب البين هيجت لــوعتي
فَويْحَـــــكَ خَبِّرْنِي بِمَا أنْــــتَ تَصْرُخُ
أبِالْبَيْنِ مِنْ لَيْلَى ؛ فإنْ كُنْتَ صَادِقـاً
فــــــَلا زَالَ عَظْمٌ مِنْ جَنَاحِكَ يُفْسَخُ
ولازال رام فيك فــــــوق سهمـــــــه
فـــــــَلا أنْتَ في عُشٍّ وَلاَ أَنْتَ تُفْرِخُ
وَلاَ زِلْتَ عَنْ عــــــــَذْبِ الْمِيَاهِ مُنَفِّراً
وَوَكــــــــْرُكَ مَهْدُومَاً وبَيْضُكَ يُرْضَخُ
فإن طــرت أردتك الحتوف وإن تقع
تقيض ثعبان بوجهــــــــــــك ينفخ
وعانيت قبل الموت لحمك مشدخـا
عَلى حـــــــَرِّ جَمْرِ النَّارِ يُشْوَى وَيُطْبَخُ
ساحة النقاش