الحمد لله، له أسلمت، وبه آمنت، وعليه توكلت، والصلاة والسلام على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى آله وأصحابه أجمعين وبعد،
يستعد المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها لاستقبال الأيام العشر من شهر ذي الحجة، هذه الأيام المباركة التي هي أفضل الأيام، ومن نعم الله سبحانه وتعالى على عباده أن جعل لهم مواسم للخير، يستكثرون فيها من الأعمال الصالحة التي تقربهم من خالقهم سبحانه وتعالى، وقد ورد في فضلها أدلة من الكتاب والسنة منها:
قوله تعالى: (وَالْفَجْرِ، وَلَيَالٍ عَشْرٍ)، سورة الفجر، الآيتان 1 - 2، قال ابن كثير رحمه الله: “والليالي العشر المراد بها عشر ذي الحجة، كما قاله ابن عباس وابن الزبير ومجاهد وغير واحد من السلف والخلف”، (تفسير القرآن العظيم لابن كثير 4/651).
قال تعالى: (وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ)، “سورة الحج، الآية 28”، قال ابن كثير رحمه الله “عن ابن عباس رضي الله عنهما: الأيام المعلومات أيام العشر”، (تفسير القرآن العظيم لابن كثير 3/291).
التكبير
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ما من أيام أعظم وأحب إلى الله العمل فيهن من هذه الأيام العشر فأكثروا فيهن من التكبير والتهليل والتحميد”، (أخرجه أحمد).
كان سعيد بن جبير، رحمه الله، إذا دخلت العشر اجتهد اجتهاداً حتى ما يكاد يقدر عليه.
قال ابن حجر في كتابه فتح الباري بشرح صحيح البخاري: “والذي يظهر أن السبب في امتياز عشر ذي الحجة لمكان اجتماع أمهات العبادة فيه، وهي الصلاة والصيام والصدقة والحج، ولا يتأتى ذلك في غيره”، (فتح الباري بشرح صحيح البخاري 2/534).
ذكر الشيخ الصابوني في كتابه صفوة التفاسير فضل هذه الأيام العشر عند تفسيره لقوله تعالى: (وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمّ َمِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً)، “سورة الأعراف، الآية 142”، “أي وعدنا موسى لمناجاتنا بعد مضي ثلاثين ليلة وأكملناها بعشر ليالٍ فتمت المناجاة بعد أربعين ليلة قال الزمخشري: روي أن موسى - عليه الصلاة والسلام - وعد بني إسرائيل، وهو بمصر إن أهلك الله عدوهم أتاهم بكتابٍ من عند الله فيه بيان ما يأتون وما يذرون، فلما هلك فرعون سأل موسى ربه الكتاب، فأمره بصوم ثلاثين يوماً وهو شهر ذي القعدة، فلما أتم الثلاثين أنكر خلوف فمه “تغير رائحته” فتسوّك فأوحى الله تعالى إليه: أما علمت أن خلوف فم الصائم أطيب عندي من ريح المسك! فأمره تعالى أن يزيد عليها عشرة أيام من ذي الحجة”، (صفوة التفاسير 1/469).
قال المحققون من أهل العلم: أيام عشر ذي الحجة أفضل الأيام، وليالي العشر الأواخر من رمضان أفضل الليالي.
العمل الصالح
والأعمال الصالحة فيها لها شأن عظيم فقد ورد أنه صلى الله عليه وسلم قال: “ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشر فقالوا: يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله؟ فقال: ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء”، (أخرجه البخاري).
إن الإسلام دين عظيم، حيث منّ الله علينا بهذا الدين، وهو أفضل دين، كما منّ الله علينا بأكرم نبي أرسل، وأعظم كتاب أنزل، منّ علينا بالقرآن، وبمحمد عليه الصلاة والسلام، وأنعم علينا بالإسلام (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا”، “سورة المائدة، الآية 3”.
يا لها من أيامٍ مباركة عند الله عز وجل، الأعمال الصالحة فيها مضاعفة، والثواب كبير، فصيام يوم منها يعدل صيام سنة، كما جاء في الحديث: “ما من أيام أحب إلى الله أن يتعبد له فيها من عشر ذي الحجة يعدل صيام كل يوم منها بصيام سنة”، (أخرجه الترمذي).
ولهذا الشهر فضائل عديدة منها: أنه شهر عبادة هامة في الإسلام، ألا وهي شعيرة الحج، التي جعلها الله تعالى ركناً من أركان هذا الدين، فالحج ركن من أركان الإسلام الخمسة جعله الله سبحانه وتعالى واجباً على المستطيع وعلى من يملك الزاد والراحلة، فعلى بركة الله بدأت وفود الرحمن تؤم بيت الله العتيق، على بركة الله تسير قوافلهم يحذوها الشوق والإيمان لتحظى بأداء ركن من أركان الدين وشعيرة من شعائر الإسلام، حيث تكتحل عيونهم بالطواف حول الكعبة المشرفة، ومن تيّسر له منهم تقبيل الحجر الأسود قَبَّله لقول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - “والله إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله يقبلك ما قبلتك”، فالصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة، كما أن الصلاة في مسجد الحبيب صلى الله عليه وسلم بألف صلاة، ومن فضل الله أن قوافل الحجيج قد بدأت بالوصول بسلامة الله ورعايته إلى مهبط الوحي الذي عم البلاد، فمنذ انطلق صوت الخليل إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - ينادي في دعاء خاشع (رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ)، “سورة إبراهيم، الآية 37”.
البركات
منذ انطلق هذا الصوت الجليل المهيب، وأفئدة المؤمنين في جنبات الأرض كلها تهوي حنيناً إلى البيت الحرام، وتذوب شوقاً لرؤية ذلك البيت الكريم، حيث تُسكب العبرات وتفيض البركات، وَتُقال العثرات، وَتُغْفر الزلات، وَتُضَاعف الحسنات وَتُمْحي السيئات، فقد أَذنَّ سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام في الناس بالحج صادعاً بأمر ربه، فتجاوبت لندائه قلوب المؤمنين الصادقين قائلة: “لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك”، وقد بَيَّن - صلى الله عليه وسلم - فضل الحج حيث يقول: “من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه”، (أخرجه الشيخان)، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: “تابعوا بين الحج والعمرة، فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد، والذهب والفضة، وليس للحجة المبرورة ثواب إلا الجنة”، (أخرجه الترمذي والنسائي).
ثمرات
إن الحج عبادة جامعة لكل العبادات الأخرى، ولذلك بلغ من أهميتها وثمرتها أن جعل الله سبحانه وتعالى من يعود منها كمن ولدته أمه، هذا هو الحج وتلك بعض ثمراته وغاياته ويكفي الحجاج فضلاً وشرفاً أنهم وفد الله وضيوفه، وأنه يباهي بهم ملائكته وأنهم يغفر لهم، وأنهم يشفعون لغيرهم، كما جاء في قوله - صلى الله عليه وسلم-: “الحجاج والعمار وفد الله، إن دعوه أجابهم، وإن استغفروه غفر لهم”، (أخرجه النسائي و ابن ماجه).
الدكتور يوسف جمعة سلامة
خطيـب المسـجد الأقصـى المبـارك
ساحة النقاش