نلاحظ أن الأحزان والمصائب تجمع الناس وتقربهم من بعضهم بعضاً، فينسون خلافاتهم بمجرد وقوع أحدهم في مصيبة. تصفو نفس الإنسان حين يعيش حالة الحزن، وأكثر ما تشف النفس في مواقف الحزن، فالمأساة كما يقول أرسطو تطهر النفس، بحيث ترى الحقيقة بواقعها بعيداً عن الزيف، ويتعالى الإنسان في الشدة ويترفع عن أشياء في الحياة طالما تمسك بها، وكان مستعداً لأن يكره أو يتخاصم مع عزيز أو أن يقتله في لحظة أنانية، ولكنه في مواقف الحزن يبدو أكثر بصراً وبصيرة بالحياة ومواقفها. قيل إنَّ أول مَنْ بكى على نفسه وذكر الموت في شعره هو يزيد بن حذَّاق فقال:
قدْ رجَّلونِي ومَا بالشَّعر مِن شَعَث وألْبَسُونـــــي ثِيابـاً غيرُ أخْلاق
وطيَّبُوني وقَالـــــوا أيُّما رَجُـــــل وأدْرَجُونِي كَــــــأني طَيُّ مِخْرَاق
وأرْسَلُــــوا فِتيةً مِن خَيْرهم حَسَبًـا ليُسنِدوا في ضَرِيح القَبْر أطْبَاقي
وقسَّمُوا المَال وأرفضَّت عوائدُهُم وقـــَال قَائِلُهُم مات ابْنُ حَذاق
هوِّنْ عَليكَ ولا تُولع بإشفاقٍ فإنَّمــــــا مَالُنا لِلْوَارثِ البَاقِي
وروي أن امرأ القيس عاد من بلاد الروم منصرفاً عن قيصر ملك الروم، بعدما أعطاه حُلَّةً مسمومة، فلَّما وصل إلى أنقرة لبسها فتقطع جلده وهلك، وقبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة قال:
لَقدْ دَمَعتْ عَيْنَايَ فِي القَرِّ والقَيْظِ
وهلْ تدمعُ العَينانِ إلاَّ مِــن الْغيظِ
فلَّمَا رَأيـــــــتُ الشَّرَ ليس بِبَــارِحٍ
دَعـَوتُ لِنَفْسِي عِندَ ذَلــكَ بِالْفيظِ
وقال أيضاً قبل ذلك حينما رأى قبر امرأةٍ في سفح جبل عسيب الذي مات عنده:
أجَـــــارتنَا إنَّ الخُطُوبَ تنوبُ وإنــــي مُقيمٌ ما أقامَ عسيبُ
أجــــَارتنَا إنَّـــــا غريبانِ هَهُنَا وكـــلُّ غريبٍ للغريبِ نسيبُ
فإن تصِلِينا فالقرابــــــة بيننا وإن تصرمينا فالغريبُ غريبُ
أجَارتنَا ما فاتَ ليسَ يَؤُوبُ ومَـــاهو آتٍ في الزمانِ قَريبُ
وليس غريباً مَنْ تناءت ديــارُهُ ولكنْ مَنْ وَارَى التراب غريبُ
أما الشاعر الجاهلي لبيد بن ربيعة فقد حضرته الوفاة وكانت عنده ابنتاه، فقال يخاطبهما:
تمنَّى ابنتايَ أنْ يعيشَ أبوهُمَــــا
وهـــل أنــا إلا من ربيعةَ أو مُضَرْ
ونـــائحتانَ تندبــــانَ بِعَاقـــــل
أخـــــا ثقة لا عينَ منه وَلا أثــــَرْ
وفي ابنَيْ نزارٍ أســــوة إنْ جَزِعْتُمَا
وإنْ تسألاهـــم تُخبرا فيهم الخَبَرْ
وفيمنْ سواهم مِن مُلوك وسوقة
دعائم عرش خانهُ الدهــر فانْقَعَرْ
فقُومَا فَقُولا بالذي قــــد عَلِمْتُمَا
ولا تَخْمِشَا وَجْهاً ولا تَحْلِقَا شَعـَرْ
وقُولا هوَ المرءُ الـــــَّذي لا خَليلهُ
أضَاعَ ولا خَانَ الصَّديقَ ولا غَـدَرْ
ساحة النقاش