زائرة للمتحف داخل صالة العرض
عبر أكثر من أربعة عشر قرناً من الزمان مارس الصُناع والفنانون في أرجاء دار الإسلام من حدود الصين شرقاً إلى الأندلس غرباً أعمالهم المعتادة في إنتاج ما تحتاجه المجتمعات الإسلامية من أدوات ومصنوعات للاستخدام اليومي في الطعام والشراب والمنازل ودور العبادة وجاءت جميعها وبغض النظر عن رخص أسعارها حافلة بالزخارف والألوان التي تعبر عن جماليات ووحدة الفن الإسلامي وتسابقت المتاحف العالمية على اقتنائها لعرضها في قاعاتها. وإذا كانت أيدي تجار العاديات قد فرقت التحف الإسلامية على أركان الكرة الأرضية، فإن العزاء يبقى أنها حيث استقرت تتحدث عن ماضينا وتراثنا الفني التليد.
أحمد الصاوي - في قلب غرناطة الأندلسية، يقع متحف الآثار الذي يعد أحد المعالم السياحية البارزة في المدينة الأشهر بجنوب إسبانيا.
ويعرف الحي الذي يوجد به المتحف باسمه الأندلسي القديم “حي البيازين”، وهو وجهة أساسية لكثير من زوار المدينة الذين يقصدونه لمكانته التاريخية والمعمارية ولمناظره الطبيعية أيضا. وكانت نشأته الأولى في العصر الأموي، حيث اشتهر بثورات سكانه من الحرفيين والطبقة التجارية بالثورات ضد حكم خلفاء الدولة الأموية الغربية ثم ازدادت أهمية الحي خلال حكم بني زيري الذي قاموا ببناء أسوار دفاعية حول الحي في مطلع القرن الخامس الهجري”11م”.
وفي عهد بنى الأحمر حدث تطوير كبير للحيّ الذي يتميز بشوارعه الضيقة والمرتبة على شكل شبكة تمتد من أعلى المدينة إلى أسفلها عند النهر. وبعد سقوط غرناطة واستيلاء فرديناند وإيزابيل عليها في 1492م أصبح حي البيازين مقرا للثورات ضد عسف الإسبان وخططهم لتنصير المسلمين، فنشبت به ثورة في عام 1499م بعدما نقضت إيزابيلا عهدها بكفالة الحريات الدينية للمسلمين وخيرتهم بين التنصر وبين مغادرة إسبانيا مع جمعها الكتب العربية وإحراقها في ساحات الحي.
حرب البشرات
وكانت آخر الثورات للموريسكيين بغرناطة تلك التي تفجرت في يناير 1568م ضمن أحداث حرب البشرات الرامية لإحياء الدولة الأموية وأدى فشلها لإجلاء المدجنين “الذين أدجنوا إسلامهم”من البيازين وكان عددهم نحو 80 ألف مع منع استخدام اللغتين العربية والأمازيغية كليا.
وقد أدرجت اليونسكو حي البيازين على قائمة التراث العالمي الأولى بالرعاية لما يحتويه من معالم معمارية من أهمها أسوار القصبة القديمة والأسوار الدفاعية المشيدة في عهد بني الأحمر وأبراج القصبة والمسجد الرئيسي الذي تم تحويله إلى كنيسة فضلا عن بعض القصور الإسبانية التي شيدت بعد خضوع غرناطة للإسبان وفقا للتقاليد المعمارية والروح الزخرفية الإسلامية وتعرف مثل تلك المباني بعمارة الطراز “المدجني” نظرا لقيام المسلمين الذين أخفوا عقيدتهم عن محاكم التفتيش بأعمال تشييدها وزخرفتها وهي تعد ومثيلاتها التي شيدت في أميركا اللاتينية على أيدي المهجرين الموريسكيين امتدادا للفنون الإسلامية بالأندلس.
ومن بين تلك المباني في حي البيازين، مقر المتحف الأثري والذي كان في الأصل قصرا شيد في عام 1539م ويعرف بقصر “كاستريل” وكان القصر في حوزة ورثة هرناندو أمين الملوك الكاثوليك قبل أن يتم تحويله إلى متحف. ويعرض المتحف لزواره مقتنيات تنتمي للعصور المختلفة التي مرت بها غرناطة بدءا من عصور ما قبل التاريخ وحتى العصور الإسلامية بالأندلس.
الطراز «المدجني»
ونظرا لأن القصر قد شيد على الطراز الأندلسي “المدجني”، فهو يتألف من طابقين وبوسطه صحن مكشوف تحتله حديقة وبالمتحف سبع صالات عرض قسمت معروضاتها وفقا لترتيب الحقب التاريخية للمدينة.
فهناك صالة لمعروضات العصر الحجري القديم التي توضح الأدوات الحجرية التي كانت مستخدمة في تلك الأزمان وصالات أخرى للحضارات القديمة الفينيقية والرومانية والقوطية ثم للحضارة الإسلامية وهي تضم مقتنيات من مواد متنوعة منها الفخار والخزف والمشغولات المعدنية. وخلال شهر فبراير الماضي شارك المتحف في معرض نظم بغرناطة تحت اسم “كنوز غرناطة” عرضت فيه لأول مرة 83 قطعة أثرية لم يشاهدها الجمهور من قبل من بينها أقدم آثار العصر الحجري وإنسان الكهوف وقطع أخرى تعود لعهد آخر ملوك بني نصر بغرناطة.
ولعل أهم ما يلفت الانتباه في متحف غرناطة المحيط العمراني الذي يتواجد به في حي البيازين، والذي يعبر عن الطابع المعماري الأندلسي للمدن بشوارعها الضيقة وللمباني بحرصها على الخصوصية لسكانها، فهي لا تتجاوز الطابقين ارتفاعا ولها جميعا ساحات داخلية فضلا عن الاهتمام بالحدائق الداخلية، وفي هذا السياق فإن مبنى المتحف بذاته من ناحية التصميم العام وأيضا من جهة الوحدات الملحقة مثل أحواض الماء والفوارات والزخارف الجصية للدرج الداخلي والجدران، هو في حقيقته متحف قائم بذاته للعمارة الإسلامية وامتدادها خلال فترة المدجني.
الخزف الأندلسي
ومن أجمل القطع الفنية التي يقتنيها متحف الآثار بغرناطة قدر من الخزف الأندلسي الذي اشتهرت مدينة غرناطة بإنتاجه والقدر له هيئة أواني الزيت المعروفة ويعود إلى القرن الثامن الهجري “14م”. والقدر له بدن كروي بقاعدة ضيقة وعنق طويل وله مقبضان ينطلقان من نهاية البدن قرب الرقبة وقد زخرف بألوان البريق المعدني الممزوجة باللون الأزرق اللامع.
وينقسم بدن القدر إلى منطقتين زخرفيتين علوية وسفلية بواسطة شريط من الكتابة العربية بخط النسخ المغربي نقرأ في كلماتها “لا إله إلا الله” وتتميز زخرفة المنطقة التالية لقاعدة القدر بأنها مؤلفة من مناطق زخرفية بيضاوية متكررة تفصلها عن بعضها البعض مناطق شبه مثلثة قاعدتها تتجه نحو الشريط الكتابي الأوسط وبينما زخرفت المناطق البيضاوية بالرسوم النباتية التي رسمت باللون الأزرق نجد المناطق الأخرى ملونة باللون الذهبي في أسفلها، حيث الرسوم النباتية والهندسية، بينما المناطق العلوية تزدان بكتابات نسخية نفذت باللون الأزرق، ونستطيع أن نتبين منها عبارات دعائية لصاحب القدر مثل “اليمن والإقبال الدائم”. أما الجزء الأعلى من القدر فمقسم لمناطق زخرفية بواسطة أشرطة من الكتابات الذهبية التي تتجه من الرقبة إلى الشريط الكتابي الأوسط وبكل منطقة زخرفية نجد رسما لطائرين متقابلين على أرضية من الزخارف النباتية الزرقاء أو مجرد رسوم نباتية باللون الأزرق. ويزدان المقبض بزخارف نباتية حولها شريط كتابي وكلها منفذة باللون الأزرق ويعرف هذا الطراز من قدور خزف البريق المعدني باسم أواني “الهمبرا” أو الحمراء نسبة لقصر الحمراء الشهير بغرناطة.
وبالمتحف أيضا العديد من أواني الخزف التي اشتهرت غرناطة بإنتاجها خلال عهودها الإسلامية ومنها قدر من الخزف المرسوم تحت الطلاء به رسم لأرنب بري يتكرر على امتداد البدن ويفصل بين كل رسم وآخر شريط من الزخرفة المجدولة، وهو ما يذكرنا بتقاليد الزخرفة الإسلامية في القرون الهجرية الثلاث الأولى، حيث التأثر بروح الزخارف الساسانية والبيزنطية.
أما المشغولات المعدنية الإسلامية فتضم قطعا من الحلي الذهبية من أساور وأقراط وقلائد، حيث برع الصاغة الأندلسيون في تشكيلها وزخرفتها، وهناك أيضا بين تحف المعادن بالمتحف “اسطرلاب” من البرونز يمتاز بدقة صناعته من الناحيتين التقنية والفلكية.
ساحة النقاش