فتحت دراسة جديدة باباً جديداً من أبواب ساحات المعارك التي تخوضها الأمهات العصريات والناشطات النسويات وسجلت انتصاراً للقيم الحديثة التي يُدافعن عنها. إذ أظهرت أن العمل المتواصل للمرأة خارج البيت حتى بعد أن تُرزق بأطفال يجعلها تتمتع بصحة بدنية ونفسية أفضل بعد تجاوزها سن الأربعين، مقارنةً بالأم التي تُسخر كل وقتها لتربية أطفالها ورعايتهم والعناية بهم، وأيضاً بالمقارنة مع الأمهات اللاتي دأبن على العمل بدوام جزئي داخل بيوتهن أو خارجها، وذلك خلافاً لما يعتقده الكثير من الأمهات والآباء المحافظين.
خيارات شخصية
تشير هذه الدراسة، التي عُرضت نتائجها خلال أعمال المؤتمر السنوي للجمعية الاجتماعية الأميركية، إلى أن ما يبدو في ظاهره خيارات شخصية تتخذها المرأة بعد أن تصبح أماً قد لا تكون مسألة اختيار شخصي إلى حد كبير، بقدر ما هي امتداد لنمط الحياة الذي تفضله. وقد تكون الصحة النفسية والبدنية جزئياً، نوعاً من التعويض أو المكافأة للمرأة، التي تقرر مواصلة مهنتها أو عملها في سوق العمل بعد قدوم مولودها الأول. غير أن الدراسة وجدت أن اختيارَي العمل خارج المنزل، والنتائج الصحية التي تتبع ذلك يمكن أيضاً أن يُنظر إليهما كنتائج طبيعية لما كانت عليه حياة المرأة قبل الأمومة وبعدها، بما في ذلك عوامل ذات صلة بمستواها التعليمي والاستقرار المالي لزوجها عند وضعها، وتاريخها في العمل، وما إذا كانت تمتلك وظائف إدراكية أعلى من غيرها.
وتعقبت هذه الدراسة مسار حياة مجموعة من الأمهات، وتابعت حالاتهن الصحية إلى أن بلغن منتصف أعمارهن، مع النظر إلى عوامل ملازمة كالسن الذي أنجبت فيه أول مولود، والأنشطة التي واصلت القيام بها بعد الولادة وخلال نمو الطفل، إلى جانب حصر تلك التي تخلت عنها. ووجد الباحثون أنه بعد متابعة حياة 2,540 امرأة خلال ما لا يقل عن 12 سنة بعد وضعهن المولود الأول، أن أولئك اللائي واصلن العمل بدوام كامل بعد أن رُزقن بأول طفل كُن يشتركن في قاسم واحد هو التمتع بصحة نفسية وبدنية أفضل من قريناتهن عند بلوغهن سن الأربعين. أما النساء اللاتي انسحبن من الحياة المهنية العملية بعد أن أصبحن أمهات، أو غيرن عملهن من دوام كامل إلى دوام جزئي، أو أجلن ولوج سوق العمل أو مواصلة شغْل الوظيفة إلى أن يكبر الطفل أو الأطفال، فإنهن كُن يتمتعن بمعدل جيد من الصحة النفسية مماثل لغيرهن، لكن صحتهن البدنية كانت أقل عند بلوغهن 40 سنة فما فوق.
متغيرات عديدة
بالنسبة للنساء اللاتي تقلبن بين العمل بدوام كامل وجزئي مراراً وتكراراً خلال 12 سنة التي أعقبت قدوم مواليدهن الجُدُد، فقد لاحظ الباحثون أنهن عانين من تراجع ملحوظ في صحتهن البدنية والنفسية مقارنةً بأولئك اللاتي واصلن العمل خارج البيت حتى بعد وضعهن. وسجل الباحثون المستوى نفسه من تردي الوضع الصحي لدى الأمهات ربات البيوت.
ويقول الباحثون “هناك متغيرات عديدة من قبيل نوع عمل المرأة قبل الحمل، وحجم مهاراتها الإدراكية، ومدى استمرار علاقتها الزوجية ورضاها عنها”. ومن بين الأشياء الأخرى التي لفتت انتباه الباحثين كون الأمهات العاملات بدوام جزئي واللاتي يتقاضين أجوراً زهيدة تكون حظوظهن أقل على مستوى الظفر بفرصة للترقية أو الارتقاء في الوظيفة، كما يكن أقل استفادةً من المزايا والخدمات الموازية التي تتمتع بها العاملات بدوام كامل، وهذه كلها عوامل تؤدي إلى تردي حالتهن الصحية نفسياً وبدنياً، علماً أن المفترض أن عمل الأم ساعات أقل هو تمتعها بصحة نفسية أفضل بفضل قلة الضغط عليها ومساعدتها على التوفيق بين متطلبات عملها وبيتها. ولا يتجادل اثنان في أن العمل غير المستقر يُفضي بصاحبه إلى إتيان سلوكات صحية رديئة، ويجعله أكثر قابلية للإصابة بالكآبة الناتجة عن عدم شعوره بالأمان الوظيفي، ما يكون له آثار سلبية وسيئة على صحته بشكل عام.
ويقول الباحثون إنه عند مقارنة الأمهات ربات البيوت بقريناتهن في سوق العمل، يُلاحظ أن شبكات تواصلهن الاجتماعية تكون أضيق نطاقاً وأقل نشاطاً، وأنهن لا يتمتعن باستقلالية مالية، وأنهن يعانين من عزلة اجتماعية أكبر، ما يؤثر سلباً على صحتهن النفسية والبدنية. ويختم الباحثون ملاحظاتهم في هذه الدراسة بالقول “العمل غير مدفوع الأجر للأمهات ربات البيوت قد يُقلل من شعورهن بالتقدير الذاتي، ويجعلهن أكثر عُرضةً للمخاطر المالية، ويخلق لديهن جواً من الريبة وعدم اليقين في المستقبل، فتغدو صحتهن النفسية والبدنية أكثر هشاشةً”.
ساحة النقاش