كشفت في تل أبيب، ليلة أول من أمس، معلومات جديدة حول تدمير المفاعل النووي السوري في دير الزور، قبل خمس سنوات، واغتيال اللواء محمد سليمان المسؤول عن المفاعل، فيما بعد، مما يعطي المزيد من البراهين على أن إسرائيل هي التي نفذت العمليتين. وقد كشف النائب السابق لرئيس مجلس الأمن القومي في البيت الأبيض إليوت أبرامز، أن رئيس الوزراء الإسرائيلي في حينه إيهود أولمرت، أبلغ الرئيس الأميركي جورج بوش الابن، بقراره تدمير المفاعل، فلم يعترض. وأكد مسؤولون إسرائيليون أنهم توقعوا أن ترد سوريا بهجوم عسكري على إسرائيل وتقصف تل أبيب بالصواريخ، لكن سوريا لم تفعل.
وردت هذه المعلومات في تقرير تلفزيوني طويل بثته ليلة أول من أمس «القناة العاشرة»، وهي قناة تلفزيون تجارية مستقلة في إسرائيل، وحرصت القناة على الإشارة، منذ البداية، إلى أن معلوماتها والتحليلات الواردة في التقرير مبنية على معلومات أجنبية، وبهذا قصدت أن لا تصطدم مع قرار الحكومة الإسرائيلية عدم الاعتراف بمسؤوليتها عن هاتين العمليتين. لكن ظهور إليوت أبرامز والمسؤول السابق في «الموساد» (جهاز المخابرات الإسرائيلية الخارجي)، رافي بار زوهر، أعطى زخما جديدا للقناعة بأن إسرائيل هي التي تقف وراء العمليتين، حيث تحدث أبرامز عن الموضوع على أنه أمر مفروغ منه. فروى كيف عرض أولمرت الموضوع على الرئيس بوش، وكيف أرسل هذا وفدا من مجلس الأمن القومي برئاسة ستيف هادلي ومشاركة أبرامز نفسه إلى إسرائيل، وأطلعهم على الصور والوثائق، وكيف طلب أولمرت رسميا من الولايات المتحدة أن تضرب المفاعل النووي السوري، وكيف قررت أميركا رد الطلب بالقول إن واشنطن تفضل الطرق الدبلوماسية.
وكشف أبرامز، أن الرئيس بوش اتصل بأولمرت وأبلغه أنه سيرسل إلى إسرائيل وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس، لكي تظهر معه في مؤتمر صحافي مشترك يعلنان فيه كل ما تجمع لديهما من معلومات حول وجود مفاعل نووي في سوريا، ويطلبان تراجع سوريا عن خططها النووية.. لكن أولمرت رفض الطلب بنعومة، وقال إنه يفضل أن يدافع عن أمن إسرائيل بطريقة أخرى، فلم يعترض بوش.. وهكذا انطلقت العملية.
وحسب التقرير المذكور، فإن إسرائيل اكتشفت بالصدفة، أمر وجود المفاعل النووي السوري في دير الزور. ولكن، يضيف التقرير، من الصعب اتهام الموساد بالتقصير في هذه الناحية؛ فالسوريون عملوا بسرية غير مسبوقة في إقامة المفاعل النووي. أقلية ضئيلة تقدر بأربعة أشخاص أو خمسة من القيادة السورية عرفت بالأمر على حقيقته.. حتى وزير الدفاع السوري ورئيس أركان الجيش لم يعرفا بأمر هذا المفاعل. ويفسر الإسرائيليون ذلك على أنه نابع من معرفة الرئيس السوري بأن إسرائيل تعرف كل ما يدور في سوريا، فاتخذ الاحتياطات الدقيقة لمنع تسرب المعلومات، وبينها أنه لا يجري أي حديث عن الموضوع بالهواتف الجوالة أو الأرضية.
وفي الولايات المتحدة، اعتقدت المخابرات الأميركية أن إسرائيل تعرف كل شيء في سوريا، ولذلك لم تبذل جهودا زائدة لمتابعة ما يجري فيها، بينما في إسرائيل لم يتوقعوا أن تصرف سوريا مبالغ طائلة على بناء مفاعل نووي في ظل الأوضاع الاقتصادية السيئة. وقد عرف الإسرائيليون أمر المفاعل بالصدفة، خلال متابعتهم تحركات أحد أعضاء اللجنة السورية العليا للطاقة النووية، اللواء إبراهيم عثمان. فقد حضر إلى سويسرا للمشاركة في اجتماع للجنة الدولية للطاقة النووية في مطلع سنة 2007، وراحوا يراقبون شقته الخاصة القائمة في جنيف. وعندما غادرها ذات مرة، دخلها شخصان ونقلا كل ما في حاسوبه الشخصي إلى ديسك بحوزتهما وزرعا في الحاسوب ما يعرف باسم «حصان طروادة»، وهو جاسوس إلكتروني يلتقط كل عملية في الحاسوب ويسجل بالصوت والصورة ما يدور في محيط الحاسوب.
ويروي التقرير كيف ذهل خبراء الموساد وهم يقرأون المواد التي التقطوها من الحاسوب، في شهر مارس (آذار) من سنة 2007، وكيف صدم مئير دغان رئيس الموساد في حينه، عندما أبلغوه. كان في طريقه لإجراء اللقاء الأسبوعي مع رئيس الوزراء، أولمرت، فصدم هو الآخر وقال لاحقا: «عندما أبلغني دغان بالخبر، شعرت أن السماء (طربقت) فوق رأسي». فقد تبين أن خبراء من كوريا الشمالية يبنون مع السوريين المفاعل منذ سنة 2001، وأنهم شارفوا على المراحل النهائية. وتقرر متابعة الموضوع بدقة والإعداد لتدمير المفاعل.. وهنا بدأت الاتصالات مع واشنطن، وعندما اتضح أنها ليست معنية بتوجيه ضربة عسكرية للمفاعل، قرر أولمرت توجيه الضربة. ويؤكد الخبراء أن قرار أولمرت لم يكن سهلا أبدا؛ ففي تلك الفترة كانت لجنة فينوغراد تصدر تقريرها حول إخفاقات حرب لبنان الثانية. واضطر وزير الدفاع، عمير بيرتس، إلى الاستقالة. وحل محله إيهود باراك، الذي اعترض على ضرب سوريا حال إطلاعه على الخطة. لكن إجماع قادة الأجهزة الأمنية على تأييد الضربة حسم الأمر لدى أولمرت.
وتقرر أن يجري الجيش استعداداته لحرب مع سوريا، حيث توقعوا أن ترد هذه بهجوم حربي انتقاما، يتم خلاله قصف تل أبيب. وفي السادس من سبتمبر (أيلول) 2007، أمر رئيس الأركان غابي أشكينازي قواته بالانطلاق، وتوجه في اللحظة نفسها لحضور عرس سكرتيرته. وأقلعت عشر طائرات مقاتلة من قاعدتها في مطار عسكري في الشمال الإسرائيلي باتجاه الجنوب للتمويه. وفي الطريق انفصلت عن القافلة سبع طائرات مقاتلة واتجهت غربا إلى البحر ثم إلى الحدود التركية السورية. وقد نجحت في شل حركة الرادارات السورية، وقذفت المفاعل النووي خلال ثوان بالصواريخ ثم بقنابل ذكية تخترق الأرض، وعادت أدراجها من دون أن يكتشفها أحد. وقد خلفت وراءها دمارا شديدا وعشرات القتلى بينهم عشرة عاملين من كوريا الشمالية.
وواصل الإسرائيليون، وفقا للتقرير، متابعة اللواء محمد سليمان، الذي كان يقود ما يسمى «جيش الظلال»، وهي الفرقة العسكرية التي كانت تعمل بسرية تامة تحت إشراف مباشر من الرئيس بشار الأسد، ولا يتاح حتى لوزير الدفاع أو رئيس الأركان التدخل في نشاطها. وتبين أنه استأنف على الفور نشاطه لإعادة تجربة بناء المفاعل في مكان آخر، فتقرر اغتياله. وبعد 11 شهرا، وتحديدا في 1 أغسطس (آب) 2008، غادر سليمان قصر الرئاسة في دمشق بعد لقاء مع الأسد وتوجه إلى فيللا صيفية يملكها على شاطئ البحر في مدينة طرطوس الشمالية، حيث كان قد دعا أصدقاءه إلى حفل. وخلال الحفل، أطل من البحر غواصان يحملان بندقيتي قنص، وأطلقا الرصاص مباشرة نحوه فأصيب في جبينه وسقط قتيلا، وقفلا عائدين إلى أعماق البحر.
وهنا أيضا صمت السوريون 24 ساعة قبل أن يتحدثوا عن اغتيال سليمان، في حين استعدت إسرائيل لتلقي ضربة عسكرية سورية.
ويشدد التقرير على أن السهولة التي تمت بها العمليتان، يجب أن لا تخدع حكومة بنيامين نتنياهو الحالية، وهو يخطط لضرب إيران؛ فهناك فوارق عديدة بين الطرفين، ولا يوجد ضمان لأن تنجح ضربة كهذه، حيث إن الولايات المتحدة تعترض في هذه الحالة، والقدرات الإسرائيلية محدودة أكثر، وقادة الأجهزة الأمنية يعارضون الضربة حاليا، وإيران بعيدة جدا عن إسرائيل، وليست سوريا.
ساحة النقاش