عمرو أبو الفضل ـ كان الغزال الجياني من أوائل الرحالين الأندلسيين، وهو أشهر دبلوماسي عرفته الأندلس في تاريخها، زار القسطنطينية وجزر القراصنة ونجح في توطيد العلاقات الدبلوماسية مع سكان الشمال لحماية ثغور الدولة الإسلامية.
ويقول الدكتور محمود الضبع- الأستاذ بجامعة قناة السويس- ولد يحيى بن حكم البكري، الجياني، المشهور بلقب الغزال لوسامة طلعته، في سنة 156هـ، وهو ينتمي إلى أسرة عربية أصيلة سكنت الأندلس، واختلف في مكان ولادته وقيل بجيان التابعة للأندلس وإليها نسب، ونشأ في مدينة قرطبة، وعكف على دراسة علوم اللغة العربية والأدب، وبرع في الأدب والشعر حتى صار من كبار الشعراء، وكان عارفا بعدة لغات، وله مشاركة قوية في العلوم العقلية، واشتهر بلقب “العراف” لخبرته في علم النجوم والأرصاد، وتبحره في العلوم النقلية، وأهلته حكمته وخبرته ومعارفه الواسعة إلى تبوء مكانة مرموقة لدى أمراء الأندلس وملوكها من بني أمية. ويقول عنه المقري التلمساني: “كان الغزال حكيم الأندلس وشاعرها وعرافها، عمر أربعاً وتسعين سنة”.
وتولى في عهد الأمير عبد الرحمن الأوسط وظائف عامة عديدة، واختاره سفيرا في رحلتين مشهورتين إلى بيزنطة “القسطنطينية” وإلى بلاد النورمان.
رحلاته
واختلفت المصادر في عدد الرحلات التي قام بها الشاعر إلى خارج بلاد الأندلس بتكليف من البلاط الأميري في مدينة قرطبة، وخاصة على زمن الأمير الأموي عبد الرحمن الثاني، أو بغير تكليف من ذاك البلاط، فقد جاء في أخبار الشاعر أن أول رحلة له كانت إلى المشرق العربي إلى العاصمة بغداد، وكان السبب فيها إصدار الأمير عبد الرحمن أمراً بنفي الشاعر من الأندلس لهجائه لأبي الحسن علي بن نافع، الملقب بـ” زرياب”، بعد وصوله إلى قرطبة من بغداد، حيث احتفى به الأمير احتفاء كبيرا، وصار واحدا من حاشيته، وبالرغم من تراجع الأمير عن قراره بعد توسط أكابر دولته للشاعر وعفوه عنه، فإنه رحل طواعية إلى المشرق في رحلة سياحية، ودخل العراق، وزار أكثر من قطر عربي، ويقول ابن دحيه:” وأقام الغزال في رحلته تلك مدة يجول في ديار المشرق، وراح في كل قطر يسجل كل غريبة، ثم أنه حن إلى مسقط رأسه، وانصرف إلى الأندلس”، ولما عاد اتصل ببلاط الأمير عبد الرحمن الثاني، الذي كان مشغولا ببناء أسطول لحماية الشواطئ الإسلامية بالأندلس من هجمات النورمانديين “الدانماركيين” الذين غزو الأندلس مرتين، وفي أعقاب معركة عمورية التي وقعت سنة 223هـ، وهزمت فيها بيزنطة “دولة الروم” أمام الجيش العربي بقيادة الخليفة المعتصم، رغبت في خطب ود المسلمين بالأندلس والتقرب إلى دولة بني مروان، في محاولة لتخفيف الضغط عنها. وطلبت سفيرا للأمير عبدالرحمن الثاني في بلاطهم، فلم يجد أمير الأندلس أجدر من الشاعر الغزال لهذه المهمة الدبلوماسية، وسافر الغزال إلى عاصمة الدولة البيزنطية القسطنطينية، وحل سفيرا لبلاده في بلاط القيصر توفلس في سنة 225هـ-840م، ولم تورد المصادر أخبارا كثيرة عن تفاصيل رحلته، وبينت أنه فوجئ عند الدخول على القيصر بأن موظفي مراسم البلاط الإمبراطوري قد خصصوا بابا لدخوله، يجبر من يدخل معه على الانحناء إلى درجة الركوع والخضوع.
حيلة دبلوماسية
ولأن السفير يمثل دولة إسلامية فقد وجد من الصعوبة بمكان أن يخضع ويركع لغير الله، ولدهشة موظفي البلاط ولدهشة الإمبراطور ومستشاريه ووزرائه حين رأوا السفير الأندلسي يدخل منحنياً، ولكن واضعاً مؤخرته نحو الإمبراطور ورأسه إلى العكس حتى دخل من الباب، ثم استقام والتفت في دهشة الحاضرين من حيلة وحكمة السفير.
كما استفاضت في الحديث عن علاقاته الغرامية في بلاط الإمبراطور البيزنطي، ولم تشر إلى المباحثات الدبلوماسية ونتائج سفارته السياسية.
ولم يكن الغزال قد خرج من بيزنطة حتى وصله تكليف من الأمير عبد الرحمن الثاني بالسفر إلى الدانمارك وبالتحديد إلى جزيرة جيلاند شمال الأرض حيث ديار القراصنة في الدول الإسكندنافية، وكانت رحلته في سنة 230هـ، رحلة جوابية رداً على رسالة ملك القراصنة النورماندي الذي أراد عقد علاقات سلمية ومعاهدة صداقة، إثر هزيمة حملته التي أرسلها للإغارة على إشبيلية وغيرها من المدن الأندلسية.
واهتم الباحثون العرب والأوربيون برحلات الغزال واعتبروها وثيقة سياسية وأدبية نادرة، عن تطور العلاقات السياسية بين دول الشرق المسلمة وسكان الشمال في جزر القراصنة، والتعرف على المسالك والطرق الجغرافية المؤدية إليها، وحياة سكانها وغيرها من المعلومات العمرانية والحضارية التي ساعدت في التعرف على طبيعة هذه الجزر بعد أن كانت لغزا محيرا.
وترك الغزال سفرا كبيرا غزير الشعر، جمعه حبيب بن أحمد الشطجيري الأَندلسي. وظهرت له نصوص شعرية، في السفر الثاني من كتاب “المقتبس” لابن حيان. كما ألف أيضا تاريخا منظوما “أرجوزة” ذكر فيها فتح الأندلس ومجريات الأحداث فيها إلى زمانه. وتوفي -رحمه الله- في سنة 250هـ.
ساحة النقاش