العلامة ابن الأثير أحد أبرز علماء القرن السادس الهجري، ومن أبرز المؤرخين المسلمين، فقد كان ضليعا في جميع العلوم اللغوية والشرعية والعقلية، وأجمع الذين أرخوا له على علو كعبه في الحديث والتاريخ والتراجم وعلم الأنساب وشهد المعارك مع الناصر صلاح الدين الأيوبي.
ويقول الدكتور سعد بدير الحلواني- أستاذ التاريخ والحضارة الإسلامية بجامعة الأزهر- ولد أبو الحسن علي بن عبدالكريم محمد بن محمد الشيباني المعروف بعز الدين علي بن الأثير، في 4 جمادى الآخرة سنة 555 هـ، بجزيرة ابن عمر قرب الموصل بالعراق، وإليها انتسب، ونشأ في أسرة محبة للعلم والثقافة والأدب، فأبوه الفقيه الشيخ الأثير أبو الكرم بن عبدالواحد الشيباني من كبار موظفي الدولة الزنكية، وأخواه العلامة أبو السعادات مجد الدين المحدث، وضياء الدين النحوي وزير الملك الأفضل الأيوبي، واتجه منذ الصغر إلى تحصيل علومه ودرس الفقه والحديث والكلام والتفسير وغيرها من علوم الشريعة وعلوم العربية، على أكابر ومشاهير علماء الموصل، فسمع الحديث من الخطيب أبي الفضل الطوسي، ويحيى بن محمود الثقفي، ومسلم بن علي السيحي، وببغداد أخذ عن أبي القاسم يعيش بن صدقة الفقيه الشافعي، وأبي أحمد عبدالوهاب بن علي الصدمي، ورحل إلى دمشق ولازم أبا القاسم بن صصري، وزين الأمناء، وأخذ عن كبار فقهاء الشام الحديث والفقه والأصول والفرائض والمنطق والقراءات، ووجد ميلا إلى دراسة علم الحديث وأخبار الصحابة وعلم التاريخ، وانكب على التحصيل حتى تضلع وأصبح إماما في حفظ الحديث ومعرفته وما يتعلق به، حافظا للتواريخ المتقدمة والمتأخرة، خبيرا بأنساب العرب وأيامهم وأخبارهم، عارفا بالرجال وأنسابهم لا سيما الصحابة.
العمل بالتدريس
واشتغل بالتدريس في أشهر مدارس القاهرة وحلب ودمشق، وتصدر حلقات تدريس فنون مختلفة من العلم لا سيما الحديث والتاريخ، غير أن شهرته كمؤرخ فاقت صيته في العلوم الأخرى، وساهم الجو السياسي الذي عاصره من انتشار الصراعات والحروب المغولية والصليبية في عكوفه على علم التاريخ والنبوغ فيه، مما أهله لمد جسور الصداقة مع علماء الشام والاتصال بالحكام من أبناء الأسرة الأيوبية وكبار رجال الدولة واكتساب ثقتهم، وقيامه ببعض المهام السياسية الرسمية لصاحب الموصل، ومصاحبته صلاح الدين في غزواته ضد الصليبيين، وحضوره فتح برزية وغيرها.
وأشاد به العلماء وأثنوا على علمه وورعه، وقال ابن خلكان:”كان بيته بالموصل مجمع الفضلاء، اجتمعت به بحلب فوجدته مكملا في الفضائل والتواضع وكرم الأخلاق، فترددت إليه وكان أتابك طغرل قد أكرمه وأقبل عليه بحلب”، ووصفه الذهبي بأنه:”الشيخ الإمام العلامة المحدث الأديب النسابة”.
وعاد عز الدين بن الأثير في آخر حياته إلى الموصل ولزم بيته منقطعا للتأليف والتصنيف، عازفا عن المناصب الحكومية، جاعلا من داره ملتقى للطلاب والزائرين، وخلف العديد من المصنفات القيمة تركزت في موضوعات التاريخ العام، وتاريخ الأسر الحاكمة، والتراجم والأنساب، ووضح في كتبه فوائد التاريخ والعبر التي تجمعت لديه من رحلاته المختلفة ومطالعته الواسعة عن حوادث الأمم السالفة وأخبارها، حيث صاغها وهذبها ورتب أحداثها حتى انتظمت في أربعة مؤلفات أشهرها “الكامل في التاريخ”، وهو عمل موسوعي ضخم في التاريخ العام، يقع في 12 مجلدا، التزم فيه بالمنهج الحولي في تسجيل الأحداث، حيث رتب الأخبار والحوادث على السنين منذ بدء الخليقة وابتداء أول الزمان حتى عصره، وانتهى عند آخر سنة 628 هـ1230م.
الظواهر الجوية
تطرق الكتاب إلى أخبار ملوك الشرق والغرب على مدى سبعة قرون وربع القرن، وذكر إلى جانب ذلك علاقات العرب المسلمين بالشعوب الأخرى، كالهنود والصينيين والروس، كما عني بالحوادث المحلية في كل إقليم، إلى جانب اهتمامه بالظواهر الجوية والأرضية وأثرها في الحياة المعاشية من رخص وغلاء وقحط ورخاء، بالإضافة إلى السيرة النبوية وحوادثها، وتضمن أخبار الحروب الصليبية والحملات منذ سنة 491 هـ، حتى سنة 616 هـ، وأخبار الزحف التتري على المشرق الإسلامي منذ بدايته في سنة 616 هـ. كما صنف “التاريخ الباهر في الدولة الأتابكية” وأرخ فيه لملوك الموصل الزنكيين منذ أسس عماد الدين دولته سنة 521هـ-1127م، حتى سنة 607هـ 1210- 1211م، وأظهر فيه مكانة الزنكيين وجهودهم في قتال الصليبيين. وعمله الثالث الشهير كتاب “أسد الغابة في معرفة الصحابة” الذي يعد من أشمل المؤلفات في الترجمة لصحابة الرسول-صلى الله عليه وسلم- حيث يتضمن ترجمة 7554 صحابياً وصحابية تقريباً، تتصدره توطئة لتحديد مفهوم الصحابي، ثم يبتدئ ترجمته للصحابي بذكر المصادر التي اعتمد عليها، ثم يشرع في ذكر اسمه ونسبه وهجرته إن كان من المهاجرين، والمشاهد التي شهدها مع الرسول إن وجدت، ويذكر تاريخ وفاته وموضعها إن كان ذلك معلوما. ورغم أن كتابه “اللباب في تهذيب الأنساب” جاء تهذيباً لكتاب السمعاني في الأنساب، فإنه أضاف إليه العديد من المصادر المهمة منها كتب الحميدي، وابن عساكر، وخليفة بن خياط، وأبي عبيد القاسم بن سلام البغدادي، وابن ماكولا، والدار قطني، وابن حبيب، وأبي عبيدة معمر بن المثنى. كما صنف “الجامع الكبير” في البلاغة، و”تاريخ الموصل” ولم يتمه.
وتوفي رحمه الله- في 25 شعبان سنة 136 هـ بالموصل.
ساحة النقاش