الرؤيات الصادقة:
اعتاد محمد عليه الصلاة والسلام أن يقصد غار حراء في شهر رمضان من كل عام، يخلو إلى نفسه، ويتأمل الحياة، ويتوجه بعبادته إلى الخالق العظيم. وكانت هذه الخلوة وهذا التأمل من أسمى صور العبادة، حيث يقول الله تعالى: "الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب"(1) كما قال عز وجل: "الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار"(1). كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام: "تفكر ساعة خير من عبادة ستين سنة".
ثم كانت الرؤيا الصادقة وهي أول تبشير بالنبوة، وأن محمداً قد اصطفاه الله تعالى ليكون رسوله إلى العالمين، هدى ورحمة، فقالت السيدة عائشة رضي الله عنها في ذلك: "إن أول ما بدى به رسول الله صلى الله عليه وسلم من النبوة، حين أراد الله كرامته ورحمة العباد به، الرؤيا الصادقة، لا يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤيا في نومه إلا جاءت كفلق الصبح"([1]).
شارف محمد عليه الصلاة والسلام على الأربعين من عمره، وذهب إلى غار حراء يتحنث كعادته، وقد امتلأت نفسه الكريمة إيماناً بما رأى في رؤياه الصادقة، وقد خلصت نفسه من الباطل كله، وقد أدبه ربه فأحسن تأديبه، وقد اتجه بقلبه إلى الصراط المستقيم، وإلى الحقيقة الخالدة، وقد اتجه إلى الله بكل روحه أن يهدي قومه بعد أن ضربوا في تيهاء الضلال. وهو في توجهه هذا يقوم الليل ويرهف ذهنه وقلبه، ويطيل الصوم وتثور به تأملاته، فينحدر من الغار إلى طرق الصحراء، ثم يعود إلى خلوته ليعود فيمتحن ما يدور بذهنه وما يتبين له في رؤاه([2]).
وصف ابن هشام([3]) طلائع النبوة فقال: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أراده الله بكرامته، وابتدأه بالنبوة، كان إذا خرج لحاجته أبعد حتى تحسر([4])، ويفضى إلى شعاب مكة وبطون أوديتها، فلا يمر الرسول صلى الله عليه وسلم بحجر ولا شجر إلا قال: السلام عليك يا رسول الله. فيلتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم حوله وعن يمينه وشماله وخلفه فلا يرى إلا الشجر والحجارة. فمكث رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك يرى ويسمع، ما شاء الله أن يمكث، ثم جاء جبريل عليه السلام بما جاءه من كرامة الله وهو بحراء في شهر رمضان".
وعلق السهيلي على هذه الرواية بقوله([5]): "وهذا التسليم أظهر فيه أن يكون حقيقة، وأن يكون الله أنطقه إنطاقاً، كما خلق الحنين بالجذع، ولكن ليس من شرط الكلام الذي هو صوت وحرف، الحياة والعلم والإرادة، لأنه صوت كسائر الأصوات، والصوت عرض في قول الأكثرين ولم يخالف فيه النظام، فإنه زعم أنه جسم، وجعله الأشعري اصطكاكاً في الجواهر بعضها لبعض. وقال أبو بكر: ليس الصوت نفس الاصطكاك، ولكنه معنى زائد عليه... إلى أن قال: ولو قدرت الكلام صفة قائمة بنفس الحجر والشجر، والصوت عبارة عنه، لم يكن بد من اشتراط الحياة والعلم مع الكلام، والله أعلم أي ذلك كان: كلاماً مقروناً بحياة وعلم، فيكون الحجر به مؤمناً، أو كان صوتاً مجرداً غير مقترن بحياة، وفي كلا الوجهين هو علم من أعلام النبوة... وقد يحتمل تسليم الحجارة أن يكون مضافاً في الحقيقة إلا ملائكة يسكنون تلك الأماكن ويعمّرونها، فيكون مجازاً من باب قوله تعالى (واسأل القرية)".
شعر الرسول صلى الله عليه وسلم بالقلق والحيرة، وأخذ يتساءل في نفسه عن هذه الأصوات، فقد قال عليه الصلاة والسلام: "طيلة العشرة شهور التي تقدمت الوحي، كان يتخلل نومي نور باهر يشبه فلق الصبح، وكنت حينما أبتعد عن الديار أسمع أصواتاً تنادي: يا محمد! يا محمد! فكنت أنظر يمنة ويسرة، ومن خلف فلا أرى إلا شجيرات وصخوراً، فيأخذنني القلق والحيرة. إنني ما أبغضت شيئاً بغضي للكهان والسحرة، وقد خشيت أن أكون قد أصبحت، على علم مني، واحداً منهم، فيكون الذي يناديني - خفيًّا مستوراً، تابعاً من الجن الذين يتحدثون إلى السحرة والكهان بخبر السماء فيساعدونهم بذلك على القيام بمهنتهم الآثمة".
أسرّ الرسول عليه الصلاة والسلام بمخاوفه إلى خديجة، وأظهرها على ما يرى، وأنه يخاف عبث الجن به، فطمأنته الزوج المخلصة الوفية، وجعلت تحدثه بأنه الأمين، وبأن الجن لا يمكن أن تقترب منه، وإن لم يدر بخاطرها أن الله عز وجل يهيىء مصطفاه بهذه الرياضة الروحية إلى اليوم العظيم، وإلى النبأ العظيم، يوم الوحي الأول، ويهيئه إلى البعث والرسالة([6]).
الوحي:
أصبح محمد صلى الله عليه وسلم في الأربعين من عمره، وهو سن النضج والرجولة الكاملة، وفي شهر رمضان المعظم، وفي غار حراء، كان أول نزول الوحي، ومشرق نور الإسلام.
اختلف المؤرخون في تحديد يوم نزول الوحي، فروى الطبري([7]) عدة روايات، بعضها يحدد اليوم الثامن عشر من شهر رمضان، أو اليوم الرابع والعشرين، ثم قال الطبري: "وقال آخرون بل نزل لسبع عشرة خلت من شهر رمضان، واستشهدوا لتحقيق ذلك بقوله عز وجل: (وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان)، وذلك ملتقى رسول الله صلى الله عليه وسلم والمشركين ببدر كان صبيحة سبع عشرة من رمضان". وقد وافق شهر رمضان هذا شهر يناير من سنة 611 الميلادية. وروى الطبري([8]) أيضا أن أول نزول الوحي كان في يوم الاثنين، فروى: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن صوم الاثنين فقال: ذلك يوم ولدت فيه، ويوم بعثت أو أنزل عليّ فيه".
تحدث ابن هشام([9]) عن ذلك اليوم الخالد، فقال: حتى إذا كان الشهر الذي أراد الله تعالى به فيه ما أراد من كرامته، من السنة التي بعثه الله تعالى فيها، وذلك الشهر شهر رمضان، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حراء كما كان يخرج لجواره ومعه أهله، حتى إذا كانت الليلة التي أكرم الله فيها برسالته، ورحم العباد بها، جاءه جبريل عليه السلام بأمر الله تعالى".
وصف الرسول عليه الصلاة والسلام نزول الوحي عليه، فقال: "فجاءني جبريل، وأنا نائم، بنمط([10]) من ديباج فيه كتاب([11])، فقال: اقرأ. فغتنّى([12]) به حتى ظننت أنه الموت، ثم أرسلني فقال: اقرأ. فقلت: ماذا أقرأ؟ ما أقول ذلك إلا افتداء منه أن يعود لي بمثل ما صنع بي. فقال: (اقرأ باسم ربك الذي خلق. خلق الإنسان من علق. اقرأ وربك الأكرم. الذي علم بالقلم. علّم الإنسان ما لم يعلم.) فقرأتها، ثم انتهى فانصرف عني، وهببت من نومي، فكأنما كتبت في قلبي كتاباً، فخرجت حتى إذا كنت في وسط الجبل سمعت صوتاً من السماء يقول: يا محمد أنت رسول الله وأنا جبريل. فرفعت رأسي إلى السماء أنظر فإذا جبريل بصورة رجل صاف قدميه في أفق السماء يقول: يا محمد، أنت رسول الله وأنا جبريل. فوقفت أنظر إليه فما أتقدم وما أتأخر، وجعلت أصرف وجهي عنه آفاق السماء، فلا أنظر في ناحية منها إلا رأيته كذلك، فما زلت واقفاً ما أتقدم أمامي وما أرجع ورائي حتى بعثت خديجة رسلها في طلبي، فبلغوا أعلى مكة ورجعوا إليها أنا واقف في مكاني ذلك، ثم انصرف عني"([13]).
ويرى المفسرون أن في تكرار كلمة (اقرأ) إشارة إلى انحصار الإيمان الذي ينشأ عنه الوحي بسببه في ثلاث: القول، والعمل، والنية، وأن الوحي يشتمل على ثلاث: التوحيد، والأحكام والقصص([14]).
عاد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى داره، وهرع إلى خديجة، وخبأ رأسه في حجرها، وقد أخذته رعدة، فقال: دثروني، دثروني. وأسرع الخدم عليه يزملونه ويدثرونه، حتى هدأ روعه. وتوجهت السيدة خديجة إليه بالسؤال: "يا أبا القاسم، أين كنت فوالله لقد بعثت برسلي في طلبك حتى بلغوا مكة ورجعوا لي". وحدثها الرسول بما رآه، فقالت خديجة: "أبشر فوالله لا يخزيك الله أبداً، والله إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتؤدي الأمانة، وتحمل الكلّ، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق"([15]).
وكانت خديجة، رضي الله عنها، على حق في مقالتها، فقد وصفت محمداً، عليه الصلاة والسلام، بما اشتهر به، من سجايا حميدة، وأخلاق سامية، عرفها قومه جميعاً، إذ اشتهر بهم باسم "الصادق الأمين". واسترجعت خديجة في ذاكرتها أحداثاً ماضية، حين عاد غلامها ميسرة إليها، يروي لها ما شاهده في رحلته عن محمد صلى الله عليه وسلم، فقد كانت العناية الإلهية تحمي محمداً من حرارة الشمس، فقال ميسرة لخديجة: "إن هذا الغيم الذي لاحظته لم يتخلف قط من مرافقتنا منذ أن غادرنا مكة إلى أن عدنا إليها، ومنذ أن تركنا بصرى، وقد عرفني رهبان حوران العلماء من هو محمد، فعرفت أن هذا الغيم ليس إلا أجنحة ملكين مكلفين بوقاية سيدي من قيظ الشمس المهلك".
حديث ورقة بن نوفل:
استغرق محمد في النوم، تلحظه عينا زوجه الأمينة المخلصة، التي أخذت تفكر ملياً في حديث زوجها، وترجو من المولى عز وجل أن يكون ذلك فاتحة خير، وأن يكون زوجها هو النور الذي يبدد ظلام العالم. ثم شعرت أنها في حاجة إلى من تحدثه عما يجيش في نفسها، فاختارت رجلاً من أقاربها اشتهر بالحكمة والعلم والرأي السديد.
غادرت خديجة دارها قاصدة ابن عمها ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى بن قصي، وكان ورقة قد اعتنق المسيحية وقرأ الكتب، وسمع من أهل التوراة والإنجيل، وأصبح أعلم رجال مكة بالنصوص المقدسة، وكان شيخاً طاعناً في السن، كاد يفقد بصره.
قصت السيدة خديجة على ابن عمها ما أخبرها به رسول الله صلى الله عليه وسلم، مما رآه وسمعه. فقال ورقة: قدوس([16])، قدوس، والذي نفس ورقة بيده، لئن كنت صدقتني يا خديجة لقد جاءه الناموس([17]) الأكبر الذي كان يأتي موسى، وإنه لنبي هذه الأمة، فقولي له (فليثبت)([18]).
وكانت هذه هي عادته بعد كل فترة يقضيها في التحنث. وهناك التقى بورقة بن نوفل، وأسرع إلى الرسول، رغم شيخوخته ووهنه، وفقده بصره، وسأله: يا بن أخي أخبرني بما رأيت أو سمعت. فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال له ورقة: والذي نفسي بيده إنك لنبي هذه الأمة، ولقد جاءك الناموس الأكبر الذي جاء إلى موسى، ولتكذبن، ولتؤذين، ولتخرجن، ولتقاتلن، ولئن أنا أدركت ذلك اليوم لأنصرن الله نصراً يعلمه.
وأدنى ورقة رأسه وقبّل يافوخ الرسول. ثم انصرف الرسول عليه الصلاة والسلام إلى داره "وقد زاده ذلك من قول ورقة ثباتاً، وخفف عنه بعض ما كان فيه من الهمّ"([19])ولكن حياة ورقة لم تطل حتى يبرّ بوعده للرسول.
نزل الوحي كجذوة وهاجة بددت من نفس محمد عليه الصلاة والسلام كل شكّ، وأشعلت فيه تلك الآمال اللاشعورية، وتلك القوى الكامنة التي كدّسها في نفسه خمس عشرة سنة انقضت في التأمل والتحنث. لقد فتح الوحي عينيه على آفاق شاسعة، وأظهره على ما يجب أن يقوم به نحو تلك الرسالة من جهود جباة([20]).
خديجة الوحي
توجهت السيدة رضي الله عنها، إلى الرسول عليه الصلاة والسلام بالسؤال، فقالت: أي ابن عم، أتستطيع أن تخبرني بصاحبك هذا الذي يأتيك إذا جاءك؟ فقال الرسول: نعم. فقالت: فإذا جاءك فأخبرني به.
حتى إذا جاء جبريل عليه السلام كعادته، قال الرسول صلى الله عليه وسلم لخديجة: يا خديجة، هذا جبريل قد جاءني. فقالت: قم يا بن عم فاجلس على فخذي اليسرى. فقام الرسول وجلس عليها. ثم سألته خديجة: هل تراه؟ فأجاب: نعم. فقالت خديجة: فتحول في حجري. حتى إذا جلس الرسول في حجرها، سألته: هل تراه؟ فأجاب: نعم. فتحسرت السيدة خديجة وألقت خمارها، وسألت الرسول هل تراه؟ فأجابها: لا. فقالت: يا بن عم، اثبت وأبشر، فوالله إنه لملك و ما هذا بشيطان([21]).
[1]. سيرة ابن هشام ج1 ص249.
[2]. هيكل: حياة محمد ص 130.
[3]. سيرة ابن هشام ج1 ص250.
[4]. تحسر عنه البيوت: تبعد عنه.
[5]. انظر الحاشية في سيرة ابن هشام ج1 ص250.
[6]. هيكل: حياة محمد ص130.
[7]. تاريخ الطبري: ج2 ص44.
[8]. الطبري ج2 ص43.
[9]. سيرة ابن هشام ج1 ص252.
[10]. النمط: وعاء كالسفط.
[11]. قال بعض المفسرين: في قوله تعالى: (ألم ذلك الكتاب لا ريب فيه) أنها إشارة إلى الكتاب الذي جاء به جبريل حين قال للرسول: اقرأ.
[12]. الغتّ: حبس النفس، أي أن جبريل جعل النمط على فم الرسول وأنفه.
[13]. سيرة ابن هشام ج2 ص252 - 253.
[14]. انظر شرح المواهب.
[15]. الطبري ج4 ص60.
[16]. أي طاهر طاهر، وأصله من التقديس أي التطهير..
[17]. الناموس في (الأصل) صاحب سر الرجل في خيره وشره، فعبر عن الملك الذي جاء بالوحي.
[18]. سيرة ابن هشام ج1 ص254.
[19]. الطبري ح2 ص50.
[20]. دينيه: محمد رسول الله ص91.
[21]. سيرة ابن هشام ج1 ص255.
ساحة النقاش