سلام الله عليكم ورحمته... "إنّ رحمة الله قريب من المحسنين".
تحدثت عن الهدف الاجتماعي لهذا الصوم فأحسست من حديث القرآن عنه في مختلف المواطن، أنّه يصل بتدبير الحياة، وصلاً يسعى معه، أن أشعر بتقديره الاجتماعي لأثره فيها، فقدرت أن يكون قد جعله موسماً، لعلاج مشكلة العانية، ومشكلة الفقر والفوارق الاجتماعية بين الناس، وأنّه قد تخيّره موسماً سنوياً للخير، تسخو فيه النفوس، التي حورب طغيانها، وذكرت بحاجة الآدمية... والتي تهيأ لها الجو النفسي والروحي المقرب من مصادر الهدي القرآني، والتي حدت شهرتها وكبح إسرافها بقدر من الحرمان المصلح لها.
وإذا ما كان المديرون، على اختلاف منازلهم، يتخذون العدة لإنجاح مثل هذه المواسم التي لا تزال عليها المعتمد في تخفيف وقع هذه الفوارق. وتعويض ذلك الحرمان. فإننا لنحس أنّ إعداد الإسلام لإنجاح هذا الموسم، موسم الخير في رمضان يعد من أفضل التدبير المحقق للغاية المرجوة... فالناس في مثل إعانة الشتاء مثلاً ينتفعون بالأثر الخارجي كقسوة البرد، حين يعتمد الإسلام على الشعور الداخلي، والإحساس الباطني، الذي يمده الوجدان المعتقد، والنفس المؤمنة، بعد أن وضعت في حال مادية ملائمة... ولقد أقام حول هذا الموسم الصوفي محرضات قوية التأثير والتذكير، من الشعور العام، واللفت إلى أصل العقيدة، وأساس الدين، يجعل رمضان شهر القرآن، وإذا ما كان الناس يتداعون في مثل هذا الخير، بمعنى قومي أو إقليمي، فقد عمد القرآن، إلى المعنى العام، الجامع الذي ارتفع على العصبيات والروابط الضيقة، فأخذ الناس جميعاً بفريضة عامة، توحد وقت طعامهم، وقد وجد قبل قبلتهم ومصلاهم، فركز شعورهم بالوحدة تركيزاً.
وقد عرفنا أنّ العطاء الثاني من البذل الإسلامي، وهو صدقة الفطر، قد وقتت بموسم الصوم، فاطمأننا إلى هدفه الاجتماعي، في جعل رمضان موسم خير، يصلح به أمر الناس، وتعالج جماعتهم نقصها، ورجوت أن ننتفع اليوم بهذا الموسم، انتفاعاً واسع المدى، بعيد الأفق، فيما تعانيه من إصلاح اجتماعي، قوي اليوم تنبهاً له....، ذلك ما نحاول الحديث عنه بعد الاطمئنان إلى المرمى الاجتماعي، لفريضة الصوم السنوية.
إنّ الإحساس يجعل رمضان موسم خير لإحساس لم تخطئه القلوب الإسلامية في حين ما، بل شاع على الألسن أنّ رمضان شهر الخيرات، وشهر الرحمات، وشهر الطاعات... وما هو إلا أن يوجه هذا الشعور توجيهاً مثمراً لننتفع بذلك الموسم انتفاعاً صالحاً، بعيد الأثر في الحياة، وبخاصة بعدما أدركنا أنّ الإحساس الفردي يوشك أن يكون عملاً ضائعاً مبدد الفائدة، وأنّ الإحساس المنظم ينسق تلك الجهود، ويوجهها ويضاعف الانتفاع بها، ويعمد إلى ألوان من الإغراء والتفنن المفيد المجدي على هذا المجتمع الشقي البائس المريض، الجاهل، أحوج المجتمعات للاستفادة بمثل هذا الموسم، والاعتماد في إصلاح شأنه على نتائجها.
ومن هنا أشعر أن نجاح موسم الخير في رمضان خليق بالتفكير الصحيح منا والتدبير الدقيق، وتركيز جهد الأفراد والهيئات الشعبية، بل الهيئات الرسمية كذلك تركيزاً يبارك آثاره، ويعود منه بخير النتائج على الجماعة الإسلامية، بل الشرقية كلها على اختلاف نحلها.
وقد عودنا القرآن في تدبيره الاجتماعي، ألا يمس سوى الأصول الكبرى للإصلاح الإنساني، تاركاً ما وراء ذلك، من تفصيل للتدرج الحيوي، والجهاد العقلي الإنساني، ينتفع في ذلك بكل ما يسعفه عليه نشاطه، ويؤهله له تقدمه؛ ويقدر الإسلام في ذلك اختلاف الأحوال، وتغيّر الأزمان.
من أجل هذا يكفينا من البحث عن الهدف الاجتماعي للصوم، أن نجد في القرآن، ما وجدناه من الاتجاه إلى ربط هذه العبادة بحياة الأمة، لننظر فيما وراء هذا من تفصيل وتنسيق، مهتدين بتجارب الأمم ونتائج الدراسة في إنجاح هذا الموسم الخيري في رمضان، حتى نصيره عاملاً فعالاً بعيد الأثر في إنعاش الحياة، وتلافي ظواهر النقص في نواحيها المختلفة، من صحية وعلمية، وعملية، على نحو ما تفعل الأمم الشاغرة بحق أفرادها في الحياة الكريمة، السعيدة الملتمسة لأسباب العزة والمنعة في معترك الدنيا.
ولو أردنا تحقيق هذه الغاية من موسم الخير في رمضان لوجب أن نسعى إلى ذلك بتفكير عمل إيجابي جاد، وألا نعتبر ترديد القول إصلاحاً، ولا براعة الإنسان جهاداً... ولئن كنت قد خشيت - في حديثي السابق - من النزعة التجريدية الصوفية في بيان مزايا الصوم فإنّي لأشهد خشية لهذا الضجيج الكلامي الذي يمضي فيه المعنيون بالشؤون الإسلامية أكثر وقتهم وجلّ نشاطهم. وأنّه لمن صميم واجبي ألا أعفيهم - في هذه المناسبة - من كلمة حق لابد لهم من سماعها... فقد شاع فينا شيء من النشاط في تأليف الجمعيات الدينية، مختلفة الأسماء والنعوت، المتفقة جميعاً في الخطة والمنهج... فهو المركز المعدّ، والتليفون إن كان..... والمشتركون والمشتركات، والأعضاء، واللجان والرياسة... وصحيفة ضئيلة كدبالة بها الهواء.. تختفي حيناً لتبدو مهزولة شاحبة، وتردد أقوالاً معادة، قد حملتها من قبلها الكتب، ولم تحرر ذلك التحرير الذي عرفته الثقافة الإسلامية في عصورها السعيدة... فإذا ما ارتفع صوت هذه الصحيفة فبفرقة، وخلاف متفيهق على مسألة لا هي في صميم الدين، ولا في لباب الحياة... أمّا حال قومها وحيويتهم؟ أمّا ضعفهم الصحي، والعقلي، والعملي؟... أمّا ذلتهم وعزلتهم فلا شيء في هذا إلا فخر بالماضي الباهر والميراث الفاخر، وما الدنيا من إصلاح للسماء والأرض، وما نملك من تنظيم الدنيا والآخرة... لكن بعيداً عن العمل... متناسياً للواقع... وليست تلك روح الإسلام، ولا هي من خطته في قليل أو كثير فإنّما الإسلام هو التدبير الفعلي، والإصلاح العملي، والتقويم الواقعي... فمتى تتكون هكذا جماعاتنا الدينية: نشاطاً يدخل البيوت، بل الأكواخ ليتفقد حاجة المحتاج، ويدفع ألم المتألم، ويربط على قلوب الخائفين، ويقوي عزمات المجتهدين، في كل مدينة، وفي كل قرية بل في كل حي وخطة، وكل شارع وزقاق، غير مهتم بأساليب الجماعات السياسية، من غدارة عالية، وصحافة صاخبة، ودعاية كاذبة، فما هكذا الدين ولا هكذا الخدمة الدينية التي نرجو بها صلاح الحياة الإسلامية والشرقية... ومعذرة – يا مستمعيّ الكرام- عن هذه النفثة التي بعثها اليقين ضرورة التفكير العملي، والتدبير الإيحائي لإنجاح موسم الخير في رمضان أو غيره، من عمل وراء هذا الكلام الذاهب في الهواء...
وإذا عزم الأمر فصدقنا الله النية على العمل الجاد نظرنا في إيراد موسم الخير الذي نرده على مرافق الحياة، وجدنا له موارد دائمة وأخرى متجددة..
فمن الأول فدية الصوم كما أسلفنا... وهي طعام المسكين، ثمّ كفارة الفطر في بعض أحواله، وهي إطعام ستين مسكيناً... ثمّ زكاة رمضان زكاة الصوم كما يسميها الفقهاء، وهي واجبة عن كل كبير وصغير، على اختلافهم في وجوبها عن ظهر غنى؛ أو وجوبها على كل من يملك زيادة عن قوت يومه لنفسه وأهله....
تلك الموارد وما إليها لو أشرقت على جمعها هذه الهيئات الدينية التي التمسناها، متصلة بالحياة، متعلقة في صميمها لجمعت منها كثيراً جمّاً، أفضل مما تؤتيه ضريبة راتبة، تشرف عليها سلطة حاكمة متجبرة.
ثمّ إنّ وراء ذلك موارد متجددة تمدّها روح الخير العامة، التي امتاز بها رمضان، وتركت في التاريخ ظواهر حافلة كان معروف منها في مصر مثلاً فخماً فياضاً، وفي روح الخير هذه ما يهيئ للقوّامين على الشؤون الدينية سبلاً مجدية، ما أكثر ما يستطيعون أن يصيبوا منها، لو تفننوا في استثمارها بأساليب، محدثة، لبقة، من سمر عف وافتنان مؤدب، وتجمع طاهر، يلتزمون فيه حدود الفضيلة، فيزجون أولئك الذين لا يعرفون طريق الخير المزعوم إلا في العرى، والسكر، والعهر، والخبائث... ليعلموهم أنّ الخير الذي يجيء من طريق الخير أروع مما يجيء من هذه السبل المنكرة، التي تصدق فيها المقولة القديمة: تزني وتتصدق، ليتها لا تزني ولا تتصدق... من هنا يجرب هؤلاء الدينيون قواهم في الاتصال بالحياة من نواحيها المختلفة.
.... إذا صح العزم والتمسنا القوى المنقذة لهذا الجدّ، فإنّ هناك لجيشاً يقوم بذلك، فها هم أولاء طلاب العلم الديني في نشاطهم الحر، وعددهم الوافر، وإنّهم لكثيرون.
ثمّ ها هم أولاء أئمة المساجد، في معاقل للخير موزعة توزيعاً، نافذة في الحياة أمضى النفاذ.
وها هم أولاء الوعّاظ وإنّهم لقادرون مؤثرون..
ثمّ وراء أولئك جميعاً أعضاء الجماعات الدينية، حين يتحول إخلاصهم التربص إلى عمل جدي ما أكثر ما يستطيعه هؤلاء وأولئك، وما أكثر ما يظفرون به في موسم للخير، يطول شهراً، وما أقوى أثر ذلك في تسيير الحياة وإصلاحها،... وما أفسح ميادين هذا النفع العامل، الذي يتهيأ له بالتفكير والتدبير أكثر مما أشرت إليه هنا.
ما تحدثت بشيء من هذا الهدي إلا وأنا أرمي منه إلى سيادة مبدأ الفهم الاجتماعي الحر للدين، والاطمئنان إلى التفسير العملي، لمواسم ومراسم لتكون مراسم حيوية ومراسم خيرية، ولتصبح أيامه في وجودنا أيام إنهاض وإنعاش، وأعيادنا لنا أعياد وإسعاد وإعزاز.
وكذلك دعوت من قبل إلى أن يكون احتفالنا بمولد الرسول عليه السلام عملاً شاملاً، فنجعل يوم المولد هو يوم اليتيم في الشرق، وعيد اليتامى، ليعتمد المصلون العاملون عليه في حل مشكلات اليتامى، وإزاحة مصاعبهم وما برحت مكاني يومذاك حتى جمع لذلك المال - ثمّ هاأنذا اليوم أدعو إلى أن يكون رمضان، في هذا الشرق موسم خير سنوي يدبر له التدبير الناشط الذي يرده موسماً ناجحاً بعيد الأثر في حياة جماعة ناهضة تلتمس القوة والعزم.
ألا لهذا الفهم الاجتماعي للدين، والتناول العملي لنظمه دعوت، ودعوت وسأدعو ما انفسح أجلي وعملي، راجياً أن يكون ذلك يوماً فكرة شاملة، وحقيقية شاخصة. سائلاً الله أن يهديكم بهدي القرآن، وينفحكم منه سلاماً ورحمة.
ساحة النقاش