إن الناظر في روح رسالة الإسلام، الرسالة الإنسانية الخالدة، يرى أن نصوصها تزخر بالدعوة إلى التسامح والتواصل والتعارف والتعاون، فقد حث القرآن الكريم في آيات كثيرة على التسامح الديني باعتباره أساس التسامح الاجتماعي والحضاري، منها قوله تعالى: (فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ)، (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ، لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِــرٍ)، (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ)، (أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ)، فهذه الآيات وغيرها كثير يمكن الاستدلال بها وبكثير من الأحاديث النبوية وبآثار من أدبيات الفكر الإسلامي ومن التراث الإسلامي على أن الإسلام بريء من دعمه للتعصب وأن سماحته حقيقة واقعة ودعوته إلى التسامح واضحة جلية. فحقيقة التسامح الإقرار بمبدأ الاختلاف أي قبول أجناس أخرى ومواقف فكرية وعقدية أخرى وعادات وتقاليد أخرى، لأنهم أهل تسامح.
ومن المصلحات التي يتساهل الناس في استعمالها هذه الأيام التعصب والتسامح، فإذا أرادوا مدح رجل والثناء عليه قالوا إنه متسامح، وإذا أرادوا ذمه قالوا إنه متعصب من غير روية أو تثبت.
غير أنه ينبغي التمييز بين التعصب كظاهرة اجتماعية سلبية، لها أثارها السيئة على الأفراد والمجتمعات، وبين الولاء وشرعية التمسك بالحق. فلا شك أن لكل فرد حقوقا أساسية، لا تستقيم حياته ولا تكتمل شخصيته دونها، فمن واجبه الدفاع عنها والتمسك والمطالبة بها، حتى قيل: مَنْ سَكَتَ عَنْ الْحَقّ فَهُوَ شَيْطَان أَخْرَس، فمن حق الفرد أن يدافع عن حياته وعرضه وماله وأهله بكل ما يملك من وسائل إذا ما استهدف فيها، يقول عليه السلام: “مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ وَمَنْ قُتِلَ دُونَ أَهْلِهِ أَوْ دُونَ دَمِهِ أَوْ دُونَ دِينِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ”، فتعصب الإنسان لحقوقه ولأصالته وهويته ووطنه أمر طبيعي والدفاع عنها واجب عليه وتساهله وتسامحه فيها نقيصة يذم عليه ويلام من أجلها.
حقوق أساسية
وأما إذا كان الأمر يتعلق بحق غير أساسي، فالتسامح فيه من الفضائل ومكارم الأخلاق كأن تعفو عمن ظلمك أو تسقط دين المدين. وكذا حقوق الجماعة فإنها مقدسة لا يجوز التفريط فيها، بل قد يعاتب المفرط فيها، ويعد التساهل فيها ضرباً من الاستكانة والخيانة تستوجب العقوبة، وسئل النبي صلى الله عليه وسلم: أَمِنَ الْعَصَبِيَّةِ أَنْ يُحِبَّ الرَّجُلُ قَوْمَهُ قَالَ لَا وَلَكِنْ مِنْ الْعَصَبِيَّةِ أَنْ يُعِينَ الرَّجُلُ قَوْمَهُ عَلَى الظُّلْمِ.
فتعصب الفرد لحقوقه الأساسية ولحقوق مجتمعه تعصب إيجابي محمود، بل هو من الأخلاق الكريمة، يحفظ الكرامة ويصون الحرمات ويعطي القوة والمناعة للمجتمعات، والتسامح في كل ذلك منقصة وإخلال بالنظام يفضي إلى فوضى وامتهان، وهدر كيان المجتمع، فالرسول صلى الله عليه وسلم لما طلب منه عمه أبو طالب التساهل مع المشركين والتخلي عن بعض ما يدعو إليه قال له: “يا عم والله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يسارى على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله، أو أهلك فيه ما تركته”.
أما التعصب السلبي المرفوض شرعاً وعقلاً، فهو الرفض المطلق للآخر المخالف في الدين والحضارة، واضطهاده، وسوء معاملته، وسفك دمائه، فهذا ما وقف الإسلام أمامه منذ بدايته، يقول تعالى: (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)، يقول صلى الله عليه وسلم: “مَنْ قُتِلَ تَحْتَ رَايَةٍ عِمِّيَّةٍ يَدْعُو عَصَبِيَّةً أَوْ يَنْصُرُ عَصَبِيَّةً فَقِتْلَةٌ جَاهِلِيَّةٌ”، وقال أيضاً: “لَيْسَ مِنَّا مَنْ دَعَا إِلَى عَصَبِيَّةٍ وَلَيْسَ مِنَّا مَنْ قَاتَلَ عَلَى عَصَبِيَّةٍ وَلَيْسَ مِنَّا مَنْ مَاتَ عَلَى عَصَبِيَّةٍ.
سماحة الإسلام
لقد ضرب المسلمون أجمل الأمثال في تعاملهم مع مخالفيهم، وأظهروا سماحة رائعة معهم، وتاريخنا الإسلامي المجيد حافل بنماذج راقية وصور رائعة من تعايش المسلمين مع مخالفيهم من أهل الكتاب وسائر الملل الأخرى، فهذا عمر بن الخطاب الخليفة يدخل بيت المقدس ويعطي أهلها أماناً على كنائسهم ودينهم وأرواحهم وأمالهم وكل حقوقهم، وهذا محمد الفاتح السلطان يدخل القسطنطينية، ويمنح بطريقها سلطة على كنائسه، ويعطي رعاياه حريتهم الدينية، وسندهم في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في تعامله مع أهل الكتاب الذين أوصى بهم خيراً، فقال: أَلَا مَنْ ظَلَمَ مُعَاهِدًا أَوْ انْتَقَصَهُ أَوْ كَلَّفَهُ فَوْقَ طَاقَتِهِ أَوْ أَخَذَ مِنْهُ شَيْئًا بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ فَأَنَا حَجِيجُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فهذا الحديث وغيره كثير يعالج أخطر قضايا المجتمع الإسلامي وهي قضية غير المسلمين، وهم الأقليات الدينية التي تعيش تحت كنفه، فقد منحهم الإسلام من الحقوق ما لم تعطه أمة في التاريخ القديم والحديث، فاعتبرهم كالمسلمين بكافة الحقوق المدنية ويؤدون واجباتهم على حد سواء، وَقَدْ قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إنَّمَا بَذَلُوا الْجِزْيَةَ لِتَكُونَ دِمَاؤُهُمْ كَدِمَائِنَا، وَأَمْوَالُهُمْ كَأَمْوَالِنَا.
بهذه الأخلاق العالية والقيم الإنسانية النبيلة، تعامل المسلمون مع مختلف الملل والنحل الذين عاصروهم، وقدموا صورة ناصعة على الإسلام الحق إسلام الرحمة والمحبة إسلام التآلف والتحابب إسلام التعايش والحوار.
التعايش السلمي
الإنسان كائن اجتماعي جزء من المجتمع الذي يعيش فيه، فليس له أن يعتزل هذا المجتمع ويبتعد عن الناس، إلا لضرورة تلجئ إلى ذلك الاعتزال من فتنة ونحوها، ولا يجوز له أن يمارس عملاً فيه ضرر بالمجتمع أو بأي قيمة من قيمه، كما لا يجوز له أن يمتنع عن القيام بعمل فيه مصلحة للمجتمع. وفي المقابل لا يجوز للمجتمع أن يمارس عملاً فيه ضرر بالفرد أو يفوت عليه مصلحة مادية أو معنوية.
الإنسان بحكم مدنيته يتعايش مع أفراد المجتمع ويتعاون معهم على تحقيق ما هم في حاجة إليه أو دفع ما يتهدد حياتهم، وتوصيل النفع والخير إليهم، وهذا التعاون أساسي لكي يحيا حياة كريمة تليق بمقامه ومكانته في الحياة، ولا يتم هذا التعاون إلا بالاختلاط بالمجتمع، واحترامه وأداء واجباته نحوه واحترام القيم السائدة فيه.
إنَّ القرآن الكريم، وكذا السنة النبوية حافل بالآيات التي تدعم التعايش السلمي في المجتمع قصد تحقيق التوازن بين حقوق الفرد وحقوق المجتمع، رعاية الفرد لحقوق المجتمع، ورعاية المجتمع لحقوق الأفراد، من خلال الأمر بالأعمال الصالحة والأخلاق الفاضلة والنهي عن العمال السيئة والأخلاق الذميمة، منها قوله تعالى: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ).
والمسلم في المجتمع محكوم بإطار أخلاقي دقيق يحدد للفرد نوع السلوك الذي يسلكه في الحياة لكي يعيش حياة إنسانية آمنة ترعى فيها حقوق الفرد والمجتمع، لذلك كان الفرد في المجتمع في نظر الإسلام وحدة تتفاعل مع غيرها، تأخذ وتعطي لها استقلال مقيد وحرية مقيدة، واستمرارية أي حياة اجتماعية تقتضي وجود قيود والتزامات وواجبات وحقوق تتبادلها أفراد الجماعة وتؤكد فاعلية وعيهم بالوجود المشترك بينهم.
والتعايش السلمي كقيمة حضارية مطلوب بين الشعوب وفق المبادئ السامية والمثل العليا يجب على المسلمين أن يتعاملوا اليوم فيما بينهم ومع الآخرين، لينشروا بذلك المحبة والوئام والأمن والسلام لتكريس التسامح والحوار والتعايش بين مختلف الثقافات والحضارات والحوار مع الغير مهما كان نوعه ومحتواه ضرورة لا محيد عنه لبناء جسور الثقة بين البشر وإثراء علاقات التقارب والتفاهم بينهم.
فالمجتمع المسلم إنما جعل ليعيش مع المجتمعات الأخرى، وأن سعادته في إسعاد الآخرين، ففي إسعاد الإنسانية إسعاد للمسلمين ودليل على كمال الإيمان والتقوى؛ لذلك وضع القرآن الكريم السلام في قلب الإسلام عقيدة وحياة وآخرة، قال تعالى: (سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ)، مما يجعل السلم قاعدة البناء الحضاري وأساس استقرار المجتمعات وأمنها، ومن هنا جاءت أهمية التعايش السلمي بين الشعوب.
التفاعل الحضاري
نعني بالتفاعل الحضاري التفتح على الحضارات الإنسانية والاستفادة منها مع مراعاة الخصوصية الثقافية لكل حضارة: الدين اللغة، القيم العادات والتقاليد، ولئن رأينا ضرورة التفتح على الحضارة الغربية بعلومها ومعارفها وسائر إنجازاتها، إلا أن هذا التفتح لا ينبغي أن يكون مطلقاً، بل نحن مدعوون إلى النظر النقدي الرشيد لنعرف ماذا نأخذ وماذا نرفض، إذ من المقررات التي جاء بها الإسلام أن الحكمة ضالة المؤمن يطلبها ولو عند المشرك فهو أحق بها، يقول عليه السلام: الْكَلِمَةُ الْحِكْمَةُ ضَالَّةُ الْمُؤْمِنِ فَحَيْثُ وَجَدَهَا فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا.
ولقد قدم لنا التاريخ الإسلامي نماذج للتفاعل الحضاري المتوازن، حيث لا انغلاق عن الآخر ولا انصهار فيه بالكلية، فانفتحوا على الحضارات الأخرى، وميزوا بين الجانب الإنساني فاستلهموه واستفادوا منه، والجانب الذاتي المتعلق بالخصوصيات الثقافية المغايرة التي تشمل أخلاقهم وقيمهم وأنماط سلوكهم فلم تكن مقبولة عندهم.
د. سالم بن نصيرة
ساحة النقاش