اختلف العلماء في توصيف الجنّة التي تتحدث عنها الآية الكريمة، فمن قائل: إنها جنّة الخلد التي أعدّها الله للمتقين في السماء، ومن قائل: إنها بستان في مكان عال في الأرض من ناحية المشرق.. وساق كلّ فريق من الحجج ما يؤيّد ما ذهب إليه. والحق أنّه ليس في القرآن نصّ صريح يرجّح رأياً على آخر، ولذلك اختلف العلماء، إلاّ أنّ ما تميل إليه النفس أنّ هذه الجنّة إنَّما هي بستان في الأرض خلق الله فيه آدم، أما جنّة الآخرة فهي للآخرة فقط، قال الله تعالى: (وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ)، والأمر بـ “السكن”، يدل على أنّ سكنى الإنسان لوحده مكروهة، لمظنة وقوع المرء في ما لا تُحمد عقباه، فقد تنتاب الإنسان أوهام مخيفة، أو أفكار منحرفة، أو يُصاب بمرض أو أذية أو غيرها، فإن كان وحيداً بلا أنيس، عرّض نفسه للخطر! ولذلك كان لا بدّ من جليس وأنيس، وأفضل أنيس هو الزوجة، ولذلك خلق الله لآدم حواء؛ من أجل أن يأنس بها، ويتحقق له السكن النفسي، والاستقرار الأسري، وهذا من أهم مقاصد الزواج، قال الله تعالى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا)، وقد نبّه النبي صلى الله عليه وسلم من خطورة العزوف عن الزواج، وأنكر على من عزم على ترك الزواج، فقال: “فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي”، وأشار الفقهاء إلى أنَّ الامتناع عن الزواج مع تيسر أسبابه وتوقان النفس إليه، قد يصل إلى درجة التحريم؛ لأن الامتناع عنه مخالف للفطرة، ومغالب الفطرة مغلوب.
المودة والرحمة
الحياة الزوجية التي ينشدها الإسلام، هي الحياة الدافئة السعيدة، التي يسكن فيها كلا الزوجين للآخر، فيبدو البيت جنة تفوح بالمودة والرحمة، مصداقاً لقوله تعالى: (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودّة ورحمة)، أما أن يسكن الرجل إلى غير زوجته، وتسكن الزوجة إلى غير زوجها، فهذا الذي لا يريده الإسلام؛ لأنّه يجرُّ الويلات والمشاكل والمصائب والشقاء.
أما حواء فقد حققت لآدم السكن المنشود، واستطاعت أن تُدخل الطمأنينة والسعادة والهدوء على قلبه، وهو ملمح يجب أن تتنبه إليه المرأة، فتسلك كلّ السبل التي تجعل من بيتها بيتاً للسكن والطمأنينة، وهذا لا يتأتى إلا بشروط، منها:
- أن تتودد لزوجها بوصل أهله وأرحامه، فهذا مما يسعد الزوج ويقرّ عينه، أما تتعمد تعكير صفوه بنقل الأخبار المزعجة عن أهله، ثم تداوم على هذا الإزعاج، فربما يُضطر إلى ترك بيته بحثاً عن مكان يجد فيه السكن وراحة البال، وهذا يعني أنّ المرأة تملك أقوى عوامل جذب الرجل إلى البيت، أو تنفيره منه، وذلك في أغلب الأحوال.
- أن تدلّل على أنوثتها بنظافة بيتها، لأنَّ البيت النظيف يعطى إحساساً بالراحة والسعادة، ثم إنَّ الملائكة لا تدخل بيتاً فيه كناسة، ومتى افتقرت البيوت من الملائكة، حلّت الشياطين فيها، فأفسدت بقايا الود بين الزوجين، حيث يدخل الزوج إلى البيت فيرى الفوضى والوسخ، فيغضب ويتبرم.
- أن تُحسن لقاء زوجها، فتتحين ساعة قدومه لتستقبله بالابتسامة اللطيفة واللمسة الحانية، فيشعر بأنَّه أهم مخلوق في حياتها، وهذه اللفتات الجميلة لا تُكلف المرأة عناء كبيراً، ومع ذلك يتحصل من خلالها فوائد جليلة، فقد تكون مفتاحاً لكسب ودّه، وهي فوق ذلك باب من أبواب نيل الأجر والثواب إذا نوت بذلك رضا الزوج وإدخال السرور على قلبه، أما إذا عجزت الزوجة عن بذل البسمة في وجه زوجها، فهي عن امتلاك قلبه أعجز، ولأنَّها إن لم تبتسم له، فربما وجد من يبتسم له خارج البيت.
- أن تعتني بطعام زوجها وثيابه، فتحضّر له الطعام الطيب، والثوب النظيف، ولا تنام على قطيعة معه؛ لأنَّ تأجيل الصلح مدعاة لتفاقم المشكلة، وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم جانباً من صفات نساء أهل الجنة علّها تكون حافزاً لنساء الدنيا فيتمثلن تلك الأخلاق، فبيّن أنَّ الواحدة منهن أحرص ما تكون على وصال زوجها وراحة نفسه، فإذا نالها منه ظلم أو تقصير، استعطفته، فلا تبيت حتى ترضيه، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “ألا أخبركم بنسائكم في الجنة؟” قلنا: بلى يا رسول الله. قال: “ودود ولود إذا غضبت أو أسيء إليها أو غضب زوجها قالت هذه يدي في يدك لا أكتحل بغمض حتى ترضى”.
الطاعة
- أن تطيع زوجها، فإنَّ طاعة الزوج تحيي بذور الودّ في قلبه، وتدفعه إلى التعامل معها بإحسان ورحمة، وكلما أخلصت الزوجة في طاعة زوجها نما غراس الحب وتفرعت أغصانه، حتى تتفيأ الأسرة كلها في ظلال تلك الأغصان، في جو من السعادة والاستقرار، أما جنوح المرأة إلى التمرد والنشوز فهذا مما يولّد الشحناء والبغضاء في القلوب، ويؤجج دوافع النفور، ويقضي على بذور المحبة.
ثم إن طاعة المرأة لزوجها تعدل ربع دينها، فقد روى عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إذا صلت المرأة خمسها وصامت شهرها وحفظت فرجها وأطاعت زوجها قيل لها ادخلي الجنة من أي أبواب الجنة شئت”، وقد ربط النبي صلى الله عليه وسلم الخيرية في المرأة بحسن طاعتها لزوجها، فقال: “خَيْرُ النِّسَاءِ الَّتِي إِذَا نَظَرْتَ إِلَيْهَا سَرَّتْكَ، وَإِذَا أَمَرْتَهَا أَطَاعَتْكَ، وَإِذَا غِبْتَ عَنْهَا حَفِظَتْكَ فِي نَفْسِهَا وَمَالِهَا”، وتكون الطاعة بحسن التبعل، وهو أن تحسن المرأة عشرة زوجها، وتطيعه في غير معصية الله تعالى، وهو عمل يعدل الكثير من الأعمال الصالحة الخاصة بالرجال، فقد جاءت امْرَأَةٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: إِنِّي رَسُولَةُ النِّسَاءِ إِلَيْكَ، وَاللَّهِ مَا مِنْهُنَّ امْرَأَةٌ عَلِمَتْ أَوْ لَمْ تَعْلَمْ إِلَّا وَهِيَ تَهْوِي مَخْرَجِي إِلَيْكَ، اللَّهُ رَبُّ النِّسَاءِ وَالرِّجَالِ، وَإِلَهُهُنَّ، وَأَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ، إِلَى الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، كَتَبَ اللَّهُ الْجِهَادَ عَلَى الرِّجَالِ، فَإِنْ أَصَابُوا أُجِرُوا، وَإِنِ اسْتُشْهِدُوا كَانُوا أَحْيَاءً عِنْدَ رَبِّهِمِ يُرْزَقُونَ، فَمَا يَعْدِلُ ذَلِكَ مِنَ النِّسَاءِ؟ قَالَ: “طَاعَتُهُنَّ لِأَزْوَاجِهِنَّ، وَالْمَعْرِفَةُ بِحُقُوقِهِمْ، وَقَلِيلٌ مِنْكُنَّ تَفْعَلُهُ”، ولو أن النساء طبقنّ هذه الوصايا وغيرها مما أمر به الشرع، وقام الزوج بما يجب عليه تجاه زوجته، فلا شكّ أنّ البيت سيصبح جنّة وسكناً وسعادة.
ولأن الحياة لا تخلو من منغصات وعقبات، وأخطرها عداوة إبليس، أراد الله تعالى أن يقدّم لآدم درساً عملياً بالغواية التي سيتعرض لها، فأباح له شجر الجنة إلا واحدة، والتزم آدم بالنهي فلم يقترب من تلك الشجرة، إلاّ أن إبليس اقتنص هذا الموقف فأتى آدم وأقسم له الأيمان بأنه إن أكل من تلك الشجرة فسيكون خالداً مخلداً في الجنة، فصدَّقه آدم؛ لأنّه لم يكن يظن أنّ أحداً يمكن أن يحلف بالله كاذباً، فأكل من الشجرة ووقع في الخطيئة، وبالتأكيد فإنّ خطايا الأنبياء ليست كخطايانا، وإنما هي من باب ارتكاب خلاف الأولى، أو من باب فعل الكمال وترك الأكمل.. ثم إن ذلك كلّه كان قدراً إلهياً لأمر أراده سبحانه، وهو أن يخرج آدم إلى عموم الأرض، فينشر كلمة الله تعالى فيها، وليكون من نسله سيد الخلق والبشر الذي سيحمل الرسالة الخاتمة، وهي الإسلام، أما أن يقول قائل: لولا أنّ آدم أكل من الشجرة لما خرجنا من الجنّة! فهذا كلام مرفوض؛ لأنّ الله في الأصل خلقه للأرض، بدليل قوله تعالى: (إني جاعل في الأرض خليفة)، فلا يُعقل أن تكون الغاية هي العقوبة.
د. أنس محمد قصار
شجرة آدم
الشجرة التي أكل منها آدم - عليه السلام - لم يبيّن الله نوعها ولا صفتها، ولا معنى للبحث في هذا المبهم، فغاية ما في الأمر أن يفهم المسلم أنّ هذه الشجرة إنما هي رمز لمخالفة أمر الله تعالى، وهو أمر يصدق على كل ما نُهينا عنه في الدِّين، فمن تورط بمنهي عنه، فهو كمن أكل من الشجرة التي نهى الله آدم عن الأكل منها، ولا ينجيه إلا التوبة الصادقة بعد الإقلاع عن الذنب، مع أخذ الحيطة الحذر من وسوسة الشيطان وتزيينه، وذلك بالاستعاذة منه، والاشتغال بذكر الله تعالى حتى يضعف تأثيره في القلب، قال قيس بن الحجاج: قال لي شيطاني: دخلت فيك وأنا مثل الجزور، وأنا الآن مثل العصفور، قلت: ولم ذاك؟ قال: تذيبني بذكر الله تعالى.
ساحة النقاش