أ‌.    علاء سعد حسن

الإصلاح مصطلح يتردد هذه الآونة على نطاق واسع حتى يكاد يكون صرعة العصر السياسية والإعلامية والاقتصادية ، ولا غضاضة أن يطلق المسلمون مصطلح الإصلاح ويطالبون به ويدعون إليه فالإصلاح مصطلح إسلامي أصيل ومطلب من مطالب الدين ، وليس بالضرورة أن نتجنب كل ما ينادي به الآخرون أو نتشكك حياله ، لمجرد أنهم اتخذوه شعاراً ولو أرادوا منه غير وجهه الذي يسعى المسلمون إليه ، والقرآن الكريم يرشدنا إلى أن الناس إن فعلوا غير ما يعلنون أو خالفت أعمالهم المصطلح الذي ينادون به فلا يدعونا ذلك إلى رفض المصطلح ولكن رفض أفعالهم فيصف القرآن الكريم أفعال أقوام : (قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)البقرة 93 ، ولقد نعى القرآن الكريم على الذين يعلنون بألسنتهم وأبواق دعايتهم عكس ما يفعلون موضحاً أن القول قد يخالف العمل جملة وتفصيلا فقال تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204) وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ)البقرة204-205  .

 

الإصلاح مطلب ديني

والإصلاح مطلب ديني وهو جوهر الرسالات السماوية ووظيفة الأنبياء كما ورد ذلك على لسان نبي الله شعيب (إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) هود88، والإصلاح الذي هو جوهر الدين ومطلب الرسالات وعمل الأنبياء هو الإصلاح الشامل لكل مجالات الحياة ومختلف جوانب المجتمع البشري ، الإصلاح العقائدي بتوحيد الله تعالى وحده وإفراده بالعبادة وإخلاصها له وتكوين التصور الصحيح عن الكون والخلق والملائكة والرسل واليوم الآخر ومكانة الإنسان ودوره في الحياة ، والإصلاح الاقتصادي لذا كانت دعوة نبي الله ( شعيب ) تقرن بين الدعوة إلى التوحيد والدعوة إلى إصلاح النظام الاقتصادي بإيفاء الكيل والميزان وعدم بخس الناس حقوقهم .. ، والإصلاح الاجتماعي الذي اقترن بدعوة نبي الله لوط عليه السلام حيث دعا قومه مع التوحيد إلى التخلص من الفاحشة التي عمت مجتمعهم وهي فاحشة الشذوذ والمثلية ، أما دعوة موسى عليه السلام فقد اقترنت بالمطالبة بالإصلاح السياسي ، لقد بعث موسى عليه السلام إلى فرعون في دولة لها كل معالم وعناصر الدولة المعروفة من حاكم وملأ وحاشية ، وجيش وأبواق دعاية وإعلام ، ولقد استبد هذا الفرعون برأيه ، وكان من دعوة موسى عليه السلام له (قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ) الأعراف105 ، (فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى) طه47 ، وهو مطلب سياسي شبيه بالمطالبة بالحكم الذاتي ..

 

ولقد كانت الدعوة الإسلامية دعوة إصلاحية شاملة في كل جوانب الحياة 

غير أن هذا الإصلاح الشامل الذي دعا إليه الدين لم يعن الاستبدال أو التغيير بمعناه الإقصائي أو الانقلابي ، فلم يرسل الله تعالى الرسل لقتل مخالفيهم والقضاء عليهم ، ولكن أرسلهم لهدايتهم وإصلاح اعوجاجهم وتغيير أفكارهم وسلوكياتهم ، ولم يكن التغيير بمعنى الاستبدال والإقصاء إلا مرحلة أخيرة بعدما تسد كل فرصة للإصلاح والتغيير بالوسائل السلمية ، وبعدما لا يكتفي هؤلاء المفسدون بفسادهم ولكن يتعدون ذلك إلى الدعوة إلى هذا الفساد والعمل على إجهاض كل محاولات الإصلاح ، والتعدي على المصلحين والإساءة إليهم ومنعهم جبرا من دعوتهم الإصلاحية ..

 

وعلى هذا فالإصلاح الشامل الذي يريده الإسلام لاسيما في مراحله الأولية لا يعني الانقلاب أو التغيير بقدر ما يعني مد يد العون لجميع مؤسسات المجتمع لتحقيق الإصلاح والصلاح ، فالإصلاح ليس ثورة على النظم القائمة والمؤسسات العاملة بقدر ما هو التعاون على سد الثغرات وردم الفجوات والعمل على التسديد والمقاربة، " إن الترابط هو ترابط الحب ، لا البغضاء ، وإن النصيحة لتصدر من هذا المنبع العذب ، أنا أنصح أخي لأنني أحبه ، لأنني أريد له الخير ، لأنني أريد أن آخذ بحجزه أن يقع في النار ! وهو يتقبل مني النصيحة على هذا الوضع .. لأنه يحبني ويثق في نظافة النصح والتوجيه ، أما ( الأخذ على اليد ) بما تحمله من معنى الزجر أو العنف فليست أول الطريق ! إنما هي النهاية حين تفشل الوسائل كلها ، ولا يتبقى غير هذا الطريق ![1]

 

صلاح الفرد مقدمة طبيعية لصلاح المجتمع

والإسلام في دعوته الإصلاحية الشاملة له منهج خاص في تحقيق إصلاح المجتمع ، منهج يقوم على إصلاح الفرد ، ولا غرو في ذلك فالفرد هو نواة المجتمع ولبنة بنائه ، فالإصلاح في الإسلام ليس إصلاحا دعائيا أو سلطويا بل هو إصلاح قاعدي يبدأ من الفرد ويعود عليه بالنفع والفائدة ، فلا فائدة من دعاوى إصلاحية ضخمة ومصطلحات رنانة وأبنية مؤسسية تحمل عناوين براقة لكنها في النهاية تبقى خاوية بلا سكان ولا حياة ، ولذا كان صلاح الفرد المسلم صلاحا للمجتمع كله ، وليس هذا بعجيب ، فالمجتمع الرياضي يغلب على أفراده ممارسة الرياضة ، والمجتمع الاقتصادي يغلب على أعضائه الاشتغال بالاقتصاد، وكل مجتمع كذلك ، وكذلك المجتمع الصالح هو المجتمع الذي يغلب على أفراده الصلاح بصفتهم الشخصية ،ولا اعتراض على ذلك بأنه قد يوجد الفرد الصالح لكن في مجتمع يغلب عليه الفساد والإفساد فيضطهد هذا الفرد ويهمش ، لا اعتراض بذلك لأن الفرد الصالح لا يتصف بصفة الصلاح دون أن تلزمه صفة أخرى هي المصلح ، أي أن يصلح نفسه ويدعو غيره ، ويقوم بواجبه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وهكذا تعم قيم الصلاح وتنتشر من فرد إلى فرد حتى تغلب على المجتمع ككل ، ولذا فصلاح الفرد مقدمة طبيعية وبديهية لصلاح المجتمع بكافة مؤسساته السياسية والاقتصادية والتربوية والاجتماعية والرياضية والإعلامية..

 

دور شهر رمضان في إحداث الإصلاح الشامل

فإذا كان صلاح الفرد هو صلاح للمجتمع ، فإن فريضة الصيام وشهر رمضان الكريم هي إحدى وسائل الإسلام في تحقيق تربية الفرد المسلم على الصلاح والاستقامة ، وتقويم اعوجاجه والسعي لتحقيق التقوى الشاملة لله تعالى ، فغاية فريضة الصيام التقوى :( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ )البقرة183 ، وتحقيق التقوى على اتصال وثيق بقضية الإصلاح ، ولقد عقب الله تبارك وتعالى على المفسد في الأرض (وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ)البقرة206 ، ولذا كان شهر رمضان هو مناسبة كبرى على طريق إصلاح الفرد والمجتمع ، فكيف يؤدي شهر رمضان المبارك هذه الوظيفة الإصلاحية في حياة المسلمين ؟ وكيف يترجم المسلمون أنفسهم هذا التصور الإيماني والعقلي إلى ممارسات عملية نستطيع معها أن نعلن أن واقع الأمة الإسلامية والمجتمعات المسلمة خلال شهر رمضان وبعده يتغير عن واقعها قبل رمضان ، يتغير في اتجاه الإصلاح الشامل المنشود ؟

 

أولا :إعادة التوازن بين القيم والغرائز

إن الهدف المحوري الفعال الذي تقوم عليه فريضة الصيام هو إعادة التوازن المفقود بين القيم النبيلة الراقية وبين شهوات وغرائز الإنسان ، أو إعادة التوازن بين متطلبات النفس الإنسانية من متطلبات الروح ، ومتطلبات الجسد ، فلا شيء يهدد صلاح المجتمعات على كافة المستويات سوى تحكم الغرائز والشهوات وعبودية الهوى ، وعن مثل هذا يحدثنا القرآن الكريم في أكثر من موضع محذرا من ارتكاس الإنسانية إلى درك الحيوانية حينما تعلو الغرائز والشهوات وتسود فوق القيم العلوية ، والقواعد الربانية المنظمة لحياة البشر : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ)محمد 12، (أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ) الأعراف 179 ، وعن اتباع الهوى الذي غايته تحقيق أطماع الإنسان ونزواته وشهواته يقول (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)القصص50 ، ويقول (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آَتَيْنَاهُ آَيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ) الأعراف176  ، ففريضة الصيام تعمل على هذه المنظومة أو الثنائية ، ثنائية القيم والرغبات أو القيم والغرائز ، إن إعادة التوازن المفقود لهذه الثنائية ، ورد الاعتبار للقيم الراقية التي يمكن أن تغيب في أزمة المادية الطاحنة ، هي أهم مقومات الإصلاح المنشود ، والإسلام لا يكبت رغبات الإنسان ولا يرفضها أو يحرمها بإطلاق ، ولكنه يضع لها قيودا وضوابط لتصريفها في ظل أطر اجتماعية محترمة هي ما نطلق عليها بعض القيم والأصول الاجتماعية ، ويفرض الله تبارك وتعالى الصيام حيث ينظم هذه العلاقة بين الروح والجسد بين الشهوات التي زينت للناس بالغريزة ، وبين تلك القيم ، فيمنع عن المسلم الطعام والشراب والجماع وقتا معلوما من اليوم هو النهار كاملا من الفجر إلى غروب الشمس ، ويبيح له التمتع بما أحل الله ليلا تدريبا وتعويدا وتوازنا : (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآَنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ) البقرة 187

 

ثانيا: تقوية التحكم في النفس والسيطرة على الذات

ويقدم شهر رمضان من خلال فريضة الصيام وأثرها التربوي فرصة ذهبية للإنسان للتحكم والسيطرة على النفس ، فرصة ذهبية من خلال نهار كامل يمتنع فيه عن الطعام والشراب والجماع ودواعيه أو مقدماته ، فهو فرصة للمدخن أن يتحكم ويسيطر على إدمانه للتدخين ، وفرصة لمدمن المنبهات والمكيفات في السيطرة على هذا الإدمان ، وفرصة لمدمن الصور الماجنة والأفلام الإباحية والمواقع الخليعة وكلها تعد من مقدمات الجماع ودواعيه أن يقلع عن إدمانه .. إن نهار رمضان فرصة لكل مبتلى ليجاهد نفسه ويقوي إرادته ويعيد تحكمه وسيطرته على رغباته في محاولة للوصول لحالة عالية من ضبط النفس والسيطرة عليها ، وأن يحقق الفرد المسلم وقفة مع الإصلاح النفسي والسلوكي والأخلاقي تكون له زادا إصلاحيا طول العام ..

 

ثالثا : ربط الخاص بالعام  

لم يجعل الله تبارك وتعالى فريضة الصيام فريضة فردية يقوم بها المسلم في أي زمن شاء ، مثل صيام التطوع فيكون هذا صائم وذاك مفطر ، ولكن جعلها في أيام معدودات معلومات شهر رمضان الكريم ، فكأنها فريضة جماعية تجب على الأمة المسلمة كلها في زمن واحد حتى يؤتي الإصلاح الفردي أكله على المستوى الجماعي .. المجتمع كله يشترك في أداء الفريضة يمارس تفاعلاته الاجتماعية ومتطلبات حياته اليومية كلها من خلال فريضة الصيام ، ليكون التأثير على الفرد ، ويكون التأثير على المجتمع ككل من خلال الربط بين الخاص والعام وبين العبادة الفردية بين الفرد وربه وخصوصية التعبد بها ، فلا يعلم إلا الله تعالى صدق وإخلاص عبده الصائم (كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به ... )الحديث[2] ، وبين جماعية الأداء حيث تكون الأمة كلها صائمة باعتبار شهر رمضان دورة تدريبية إصلاحية ونفحة ربانية لا تعتمد على انتخاب طائفة من الأمة كفريضة الحج مثلا ، ولكنها تشمل الأمة بمجموعها حتى لا يبقى فيها مفطر واحد إلا استثناء (أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) البقرة184.

 

وكما ذكرنا من قبل فصلاح الفرد المسلم هو صلاح للمجتمع ككل ، فالمسلم لبنة في بناء المجتمع ، ولذا كان كل فرد في الإسلام مخاطبا في ذاته ، ومسؤولا مسؤولية كاملة عن نفسه أمام الله (وَكُلُّهُمْ آَتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا) مريم95، والفرد المسلم رجل موقف ورجل كلمة ورجل تميز في ذاته وشخصيته ، فلقد حذَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم من الإمعة الذي يكون مع الناس فيحسن إن أحسنوا ويسيء إن أساءوا ، ولكن عليه أن يتفرد بالإحسان إن أساء الناس ، فالمسلم علم على الإصلاح يرجع إليه الناس ،ولا يرجع هو إلى كثرة ولا قلة في المجتمع ، ولذا كانت فرائض الإسلام الكبرى تستهدف هذا الفرد بالعناية والتربية والتوجيه والتزكية وصولا من الخاص إلى العام ، ومن الفرد إلى الجماعة ..

 

رابعا :ربط العبادة بالأخلاق والمعاملات 

ولأن الصيام – كما الصلاة والزكاة والحج - فريضة وشعيرة إسلامية ذات أثر تربوي ودور فعال في بناء شخصية المسلم فهي ليست مجرد طقوس تؤدى ثم ينتهي أثرها بانتهاء أدائها ، وإنما لكل عبادة من عبادات الإسلام غاية وحكمة وثمرة ، وأثر كل العبادات على الفرد المسلم يتعدى حدود الأداء إلى مختلف الأخلاق والمعاملات ، فلقد ربط الإسلام برباط وثيق بين العبادات أو الشعائر التعبدية وبين الأخلاق الشخصية وبين المعاملات الحياتية في رباط فريد ومنظومة متكاملة تهدف في مجموعها إلى صلاح الفرد والمجتمع ، ولم يترك الله تبارك وتعالى أثر كل عبادة يفهمها كل مسلم على حده وتؤتي تأثيرها عليه بشكل مختلف عن الآخر ، وإنما أوضح الله تعالى الغاية والأثر التربوي من كل فريضة فيقول تعالى عن الصلاة (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ)العنكبوت45 ، وقد جاء في الحديث : من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فلا صلاة له ، ويقول صلى الله عليه وسلم عن الصيام : من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة أن يضع طعامه وشرابه ، وينتقل الحديث إلى الربط بين فريضة الصوم وبين السيطرة على النفس حتى في الانفعالات أثناء المعاملات ( الصيام جنة فإذا كان أحدكم صائما فلا يرفث ولا يجهل ، فإن إمرؤ قاتله أو شاتمه فليقل : إني صائم مرتين ... ) الحديث[3] ،وفي الزكاة يقول : إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا[4] ، وفي الحج يقول : وإذا خرج بالنفقة الخبيثة فوضع رجله في الغرز فنادى لبيك ، ناداه مناد من السماء : لا لبيك ولا سعديك ، زادك حرام ، ونفقتك حرام ، وحجك مأزور غير مأجور [5]..

 

وعن الدعاء يذكر الرجل أشعث أغبر يطيل السفر يقول يا رب يا رب ومأكله من حرام ومشربه من حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب له ..

 

وفي مقام الترغيب في الخلق الحسن يقول : إن العبد ليبلغ بحسن خلقه درجة الصائم القائم

إن الربط بين العبادة وأثرها التربوي وثمرتها المرجوة في إصلاح النفس والمجتمع ، ينقلها من مجرد عبادة تؤدى بطريقة آلية قد تشبه العادة في بعض الأحيان إلى دائرة التفكر والتعايش معها بالوجدان والقلب والعقل والشعور لتسيطر على النفس سيطرة كاملة وتصيغها صياغة جديدة ، تنقلها من واقع إلى واقع آخر مغاير ، وهذا بالطبع غير قول الفقهاء أن العبادات توقيفية غير مقاصدية ، لأن العبادات توقيفية في إتباع الأداء على طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم : صلوا كما رأيتموني أصلي .. وفي الحج : خذوا عني مناسككم .. ، ولكن كون العبادات توقيفية تؤدى طاعة لله تعالى علم الإنسان الحكمة منها أم لم يعلم ،هذا كله لا ينافي السؤال عن المقصد والغاية لتحقيقها والاستثمار الأمثل من حسن أدائها (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)البقرة183.

 

استفادة المسلمين المرجوة من شهر رمضان

لقد علمنا ما لشهر رمضان وفريضة الصيام فيه من وظيفة إصلاحية تجمع بين إصلاح الفرد والمجتمع عن طريق إعادة التوازن بين القيم والغرائز ، وتقوية قدرة الإنسان على السيطرة على النفس والربط بين الخاص والعام أو الفردي والاجتماعي وبين العبادات والمعاملات والأخلاق في منظومة واحدة متكاملة ، فكيف يستثمر المسلمون هذه المنظومة الإصلاحية المتكاملة لتحقيق خطوة إصلاحية في حياتهم على مستوى الفرد والمجتمع ؟

 

إن أول مطلب من مطالب استثمار شهر رمضان في الإصلاح هو النظر في فقه العبادة وغايتها والرجوع إلى ربط العبادة بالأخلاق والمعاملات ، والنظر في آدابها وخلقها ، فلكل فريضة في كتب الفقه الإسلامي آداب كما لها أحكام ، ولا يجب أن يقف المسلم عند حدود أحكام الفريضة مثل : ماذا عليه لو أكل أو شرب ناسيا ، وهل يستاك وهو صائم ، إلى آخر هذه الأحكام الفقهية للفريضة ، وإنما عليه كذلك أن ينظر في آدابها وأخلاقها التي نبه عليها النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديثه مثل : من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة أن يضع طعامه وشرابه ، ومثل قوله : إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يفسق ، وغيرها من أحاديث الآداب والربط الأخلاقي بالعبادة .

 

المطلب الثاني هو النظر في عيوب النفس لإصلاحها ، فالإنسان يلجأ إلى الطبيب لعلاج مرض محدد ، أو عرض دائم ، وما دمنا نتناول الإصلاح ، فالإصلاح لا يكون إلا لعيب أو خلل ، ولا مجال لإصلاح لا يحدد فيه الإنسان عيبه بدقة ليتعاطى بمصداقية مع المناسبة الإصلاحية .. لابد إذن من الوقفة مع النفس لتحديد العلة أو الخلل ، هل هو شح مطاع أو سرعة غضب أو تحكم وسيطرة شهوة ، أو ضعف إرادة ، أم تكاسل عن الطاعة .. .. الإجابة عن السؤال : أين الخلل ؟ هي أول مراحل الإصلاح (بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ)القيامة14

 

المطلب الثالث إعادة الاعتبار للأخلاق والمعاملات باعتبارهما من مكملات العبادة وآدابها ، فلا غناء لإحداهم عن الأخرتين ، والأمة المسلمة أمة متدينة بطبيعتها بل هي أكثر الأمم تديناً حتى في واقعنا المعاصر الذي تلام فيه على تقصيرها في حق دينها ، فإنها أكثر أمم الأرض تدينا وإقبالا على العبادة غير أن الربط بين الشعائر التعبدية والأخلاق والمعاملات والرغبة في التميز الحضاري هي المفردات الغائبة نسبيا والتي بوجودها في حياة المسلمين تتحقق شمولية الإصلاح

 

المطلب الرابع : الخروج من قوقعة الذات والنظر إلى المجتمع والأمة بشكل عام ، ومناحي الحياة العامة التي تحتاج إلى إصلاح ، لأن سفينة المجتمع واحدة ، والغرق لا يكون لفئة دون فئة ، ولذا سألت السيدة عائشة رضي الله عنها النبي صلى الله عليه وسلم : أنهلك وفينا الصالحون ؟ قال نعم إذا كثر الخبث .. والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والنصح للناس ، وتربية الأبناء والأسر ، وإشعار المفسدين برفض فسادهم ، كلها من عوامل الضبط الاجتماعي التي تحول دون تصدع المجتمع وتفشي ظواهر الفساد والانحلال فيه ، إن التحول إلى فعاليات العمل العام والمشاركة في مؤسسات المجتمع المدني أحد أهم ركائز الإصلاح ، وليس المقصود بالعمل العام وقفا على العمل السياسي فحسب ، ولكنه كل عمل يؤدي إلى تطوير المجتمع وإصلاحه ويشمل كافة مجالات الحياة كما يشمل العمل التطوعي بأنواعه ..

 

إن عزوف الفرد عن المشاركة في العمل العام هو أول درجة من درجات تصدع كيان المجتمع حيث تتعمق السلبية والفردية ، بينما يعتبر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أول مرحلة من مراحل المشاركة في العمل العام ، فليس المسلم فردا منعزلا عن مجتمعه، بل هو جزء في كل وواحد من مجموع ، ولقد كانت الدعوة القرآنية إلى العمل العام من خلال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، بل الدعوة إلى إقامة مؤسسات المجتمع المدني نفهم ذلك من قوله تعالى : (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) آل عمران104.

 

لعل هذه المتطلبات هي أهم ترجمة عملية وتفعيل تطبيقي لاستثمار مدرسة رمضان الإصلاحية ، تفعيلا لدور الشهر المبارك في الإصلاح الشامل المنشود ..

 

[1] - من كتاب قبسات من الرسول للأستاذ محمد قطب ص161

[2] - رواه أحمد ومسلم والنسائي وهو حديث قدسي

[3] - رواه البخاري وأبو داود

[4]  -  ذكره فقه السنة ج1ص649 وقال حديث صحيح

[5] - رواه الطبراني في الوسط ، ورواه الأصبهاني مرسلا مختصرا

المصدر: منارات
  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 55 مشاهدة
نشرت فى 30 يوليو 2012 بواسطة alsanmeen

ساحة النقاش

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

1,305,569