مدخل متحف طوبقابي
أحمد الصاوي
عبر أكثر من أربعة عشر قرناً من الزمان مارس الصُناع والفنانون في أرجاء دار الإسلام من حدود الصين شرقاً إلى الأندلس غرباً أعمالهم المعتادة في إنتاج ما تحتاجه المجتمعات الإسلامية من أدوات ومصنوعات للاستخدام اليومي في الطعام والشراب والمنازل ودور العبادة وجاءت جميعها وبغض النظر عن رخص أسعارها حافلة بالزخارف والألوان التي تعبر عن جماليات ووحدة الفن الإسلامي وتسابقت المتاحف العالمية على اقتنائها لعرضها في قاعاتها. وإذا كانت أيدي تجار العاديات قد فرقت التحف الإسلامية على أركان الكرة الأرضية فإن العزاء يبقى أنها حيث استقرت تتحدث عن ماضينا وتراثنا الفني التليد.
متحف طوبقابي سراي باستانبول في تركيا بمبناه ومحتوياته قطعة متكاملة من الفن الجميل وهو المتحف الأشهر في تركيا ويُعد من أهم المتاحف العالمية التي تعرض لمنتجات الفنون الإسلامية.
والقصر الذي تحول إلى متحف بقرار من كمال أتاتورك في 3 أبريل 1924م، كان في عهود العثمانيين مقراً للسلاطين والحكم منذ شيده فاتح القسطنطينية السلطان محمد الفاتح بين عامي 1475 و1478م وإلى أن قام السلطان عبد المجيد بنقل مقر الحكم لقصر “دولمه بهجة” الجديد في عام 1853م.
وشهد القصر الذي عرف لدى رعايا السلطنة العثمانية بالباب العالي عدة تغيرات في بنيته أبرزها القصر الصيفي الذي أمر بتشييده السلطان أحمد الثالث في بداية القرن الثامن عشر خلف مدخل القصر الذي كان أمامه مدفع “طوب” منحه الاسم الشهير به والذي يعني قصر باب المدفع. ولكن الحريق الذي شبّ بهذا القصر الصيفي أتى عليه في عام 1863م، وأعيد تشييده في عام 1874م بالحجر البني اللون بأبعاد تبلغ 210م طولاً و30م عرضاً، فيما بين القرن الذهبي وبحر مرمرة. وهو عبارة عن مجموعة من المباني التي تربطها ممرات ومناطق خضراء وللقصر مدخل رئيسي على جانبيه عضادتان مرتفعتان.
والمتحف يعرض لجوانب العظمة العثمانية من جهة القصر الذي كان مخصصاً لمعيشة السلطان والاستقبالات الرسمية ومن جهة مقتنيات السلاطين التي يتم عرضها في قاعات القصر في نفس مواضعها الأولى تقريباً.
المطابخ السلطانية
ويحرص رواد المتحف على زيارة المطابخ السلطانية، وهي مؤلفة من عدة قاعات مستطيلة الأبعاد فيها المطابخ ومسجدان صغيران للطباخين والحلوانيين وردهات وحمامات وتعرض في قاعات المطابخ الأواني الخزفية من الصحون والأطباق التي كانت تقدم فيها الأطعمة للسلطان، وهي من إنتاج تركيا والصين واليابان إلى جانب مجموعة ثمينة ونادرة من المرايا والملاعق والشوك وأواني الطهو النحاسية والقدور الزجاجية.
ويضم المتحف عدة قاعات موزعة على مبانيه منها قاعات “الخزينة”، وهي عبارة عن أربع غرف متداخلة بها واجهات لعرض أثمن ممتلكات السلاطين العثمانيين من الأوسمة والنياشين والسيوف والخناجر والأسلحة الشخصية التي كان الغرض منها الزينة بالأساس، ولذا فجميعها مرصع بالجواهر والألماس، ومنها ما صنع من الذهب والفضة.
وتعتبر قاعة “الساعات” من أقسام المتحف ذات القيمة التاريخية والفنية أيضاً وتعرض فيها نماذج لجميع أنواع الساعات النادرة والثمينة التي جادت بها قرائح المخترعين حتى مشارف القرن العشرين.
أما ملابس السلاطين وأبنائهم، فهي تعرض في قاعة خاصة وبها عدة قفاطين من النسيج الفاخر الحافل ليس فقط بالزخارف الملونة ورسوم الورود والأزهار، بل وبالمجوهرات التي كانت تزدان بها ملابس السلاطين الرسمية بغرض إبهار الزائرين والتعبير عن ثراء الدولة العثمانية. ومن أهم ما يعرض بقاعات الملابس قفطان السلطان بايزيد الثاني، وهو من نسيج أرجواني اللون موشى بخطوط الذهب ومرصع بعشرات من قطع الألماس والأحجار الكريمة ويعد من أقدم قطع الملابس الخاصة بسلاطين الدولة منذ عهد محمد الفاتح.
وإذا رغب زوار المتحف في التعرف على الأجواء المترفة التي كان السلاطين الأتراك ينشدون فيها الراحة والاستجمام، فعليهم زيارة قاعات السرادق البغدادي “كشك بغداد” وقاعات قسم الانكشارية “الحرس السلطاني” والتي تضم عدداً من القاعات الرخامية والمرمرية بها صالونات فخمة وتفصل بينها حدائق غناء.
المخطوطات
وقد خصصت قاعتان لعرض الصور الشخصية لسلاطين الدولة العثمانية والتي قام برسمها العديد من الفنانين الأتراك المشهورين، فضلاً عن عدد من الرسامين الإيطاليين، ولذلك نرى في تلك اللوحات الطابعين الشرقي والغربي الحديث ومن أهم تلك اللوحات واحدة للسلطان محمد الفاتح وهو يتنسم عبير زهرة الزنبق.
وتحتوى القاعتان أيضاً على نماذج من المخطوطات الثمينة التي حرص الخلفاء على جمعها ومنها مخطوطات باللغات العربية والفارسية والتركية زينت بالتصـاوير والرسوم التوضيحية إلى جانب المخطـوطات التي أنتجت بأمر البلاط لتسجيل بعض الأحداث المهمة مثل المعارك وحفلات الاستقبال والأفراح والختان الخاصة بأبناء السلاطين. وهُناك أيضاً بعض المصاحف الثمينـة التي يعود تاريخ بعضها إلى القـرن الرابـع الهجـري.
وتعد قاعات الحريم الخاصة بأمهات وزوجات السلاطين والجواري من أهم قاعات المتحف ولتجنب أضرار احتشاد الزوار بها، فإن المتحف ينظم جولات خاصة لها ببطاقات إضافية، وهناك يشاهد الزوار المخادع وأثاثها الثمين وقاعات جلوس السلطان وقاعات الطرب والحمامات ونوافير المياه المرمرية وجميع القاعات، ولا سيما تلك التي كانت مخصصة لنوم السلطان والتي تحتشد بالزخارف من الأرضية، وحتى السقف مروراً بالجدران والنوافذ، وهي بحد ذاتها قطع رائعة الإبداع من الفنون الإسلامية التركية على اختلاف طرزها من الأرابيسك والهاتاي التركي إلى الباروك والركوكو.
ومن أهم أقسام متحف طوبقابي سراي جناح “الأمانات المقدسة” والذي بدأ بقاعة متواضعة في عهد محمد الفاتح ثم أخذ في التوسع وتزايدت مقتنياته بعد نجاح سليم الأول في الاستيلاء على مصر والشام والحجاز ثم العراق. وبقصد بالأمانات المقدسة كافة المتعلقات التي تنسب للرسول صلى الله عليه وسلم وللصحابة، بل وللمسجد الحرام بمكة والمسجد النبوي بالمدينة المنورة.
ورغم أن الشك يحيط بالحقيقة التاريخية والأثرية لبعض تلك الأمانات فإنها كانت وما زالت تلقى اهتماماً كبيراً ومنها بعض آثار نبوية مثل البردة والقضيب والمرود حملت من رباط الآثار النبوية بالقاهرة إلى طوبقابي سراي وقد صنع لها بأمر السلطان عبد العزيز خان صندوق من الذهب الخالص لحفظها، وهو منقوش بكتابات تحوي آيات من القرآن الكريم، وهناك أيضاً “بردة” تنسب للسيدة فاطمة الزهراء ابنة الرسول “صلى الله عليه وسلم”، ومصحف من الورق ينسب للخليفة عثمان بن عفان، ويقال إن عليه قطرات من دمه، ولكن المتخصصين في تأريخ المخطوطات يستبعدون نسبته لعهد الخليفة عثمان بن عفان.
البردة النبوية
لعلَّ القطعة الوحيدة بين الأمانات المقدسة التي يوجد لها أصل تاريخي تلك البردة النبوية التي أهداها الرسول صلى الله عليه وسلم للشاعر “كعب بن زهير” عقب إلقائه لقصيدته اللامية التي عرفت لذلك بالبردة، وكانت في حوزة الأمويين، ثم العباسيين وحملها الخليفة العباسي إلى مصر، ثم أمر سليم الأول بنقلها إلى القصر السلطاني باستانبول. كما يوجد بالقاعة عدد من أمانات الحرمين من ميازيب ذهبية للكعبة وقطع من الكسوة ومفتاح للكعبة أيضاً.
ساحة النقاش