لا شك أن التيَّار الإعلامي المتدفق يحمل بعض المزايا الكفيلة بإخراج المجتمعات من بوتقة الجهل والتخلف، غير أنه بموازاة ذلك يحمل أخطاراً تتجسد على مستوى فلسفات العنف والجنس والاستهلاك.

فعلى مستوى فلسفة العنف يحمل بعض الإعلام أحياناً رسائل توجه للأطفال، تتجسد كلها في بعض أفلام الكرتون والألعاب الإلكترونية، الرياضات القاسية، الأفلام المليئة بمشاهد الرعب وعمليات القتل، مما ينعكس سلبياً على نفسية المتلقي عموماً... إن أي محاولة بسيطة لاقتفاء آثار هذه البرامج على نفسية الأطفال تبرز مدى تأثرهم الملموس، خاصة أنهم في مرحلة عمرية تنعكس أحداثها عليهم، حيث تتبلور شخصياتهم وتتشكل سماتها الكبرى انطلاقاً مما يشاهدون ويسمعون.

نتساءل هنا هل يعد كل ما تحمله وسائل الإعلام من أشكال عنيفة شيئاً سلبياً ينبغي الحذر منه؟

 

ألا يجد الطفل شيئاً من الترويح عن النفس، والتنفيس عن الغضب في بعض ألعاب الكمبيوتر بالرغم من العنف الذي تحتويه؟

 

العنف والعدوانية

لا شك أن الحديث عن العنف أو العدوان والقوة، وأسبابهما جميعاً هو حديث عن الإنسان، لقد خلق الله الإنسان من قبضة طين، ونفخة روح، وسواه في أحسن تقويم، وأراد له أن يكون خليفة له في الأرض، ولقد فرق الله عز وجل بين الملاك والإنسان.

فجعل للأول طاعة وامتثالاً دائمين لله عز وجل، وجعل للثاني عقلاً وأهواء وغرائز، فالإنسان تتجاذبه الغرائز والأهواء، وتتقاذفه الصراعات والتحديات من أجل البقاء، كما تعصف به الجينات والكروموسومات من داخله.... ليبقى الصراع حتمية ضرورية بين الوراثة والبيئة، تتم بلورتها على مستوى السلوكات والتصرفات.

نقرأ في ذلك قول المولى عز وجل “وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ * فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ”.

إن هذه الآيات تجسد أولى الوقائع التاريخية التي تبرز أن المحيط الذي يعيش فيه الإنسان بكل ما يتضمنه من رموز وأشخاص وطبيعة ومجتمع يؤثر لا محالة في شخصيته، تبعاً للأوضاع التي يشهدها هذا المحيط سلبا أو إيجابا.

إنه لمن المهم محاولة رصد المسألة عن قرب. إن للعنف أنواعاً عدة وصوراً شتى، ومستويات مختلفة أما أنواعه فأبرزها عنف تأديبي إصلاحي باعتباره ضرورة تقتضيها الطبيعة البشرية والآخر عنف انتقامي تخريبي، أما مستوياته، فهو إما يمارس على مستوى البيت أو المدرسة أو الحياة العامة...

فبالعنف يستطيع الإنسان التغلب على الطبيعة والاستفادة منها، وبه يستطيع حماية نفسه من المخاطر والمهالك. وبالعنف يستطيع درء المصائب والآفات، وكذا منع وقوع أمراض نفسية مثلاً الاكتئاب، فالشخص الذي يظلم ويستثار مرات عدة، ويخفي غضبه مرغماً ويكبح رغبة إظهار العنف لديه، كردة فعل يبديها استنكاراً واحتجاجاً، سواء كانت صرخة يطلقها تفرغ شحنات الغضب والإهانة والعجز الذي يحس به، أو حركة قوية عنيفة يوجهها في الفراغ لا يقصد منها إيذاء الآخرين.. كلها ردود أفعال كفيلة باحتواء غضبه والتقليل من حجم انفعاله وتهدئة أعصابه.

العنف والأزمات

فبالكلمة الصريحة والصراخ والحركة العنيفة في الفراغ، يستطيع الإنسان عموماً - طفلاً كان أم راشداً -، تفادي وقوع ما هو أسوأ بكثير، كالأزمات النفسية والاجتماعية.

إن بعض الأطفال في عصر العولمة، تتغلب عليهم ظاهرة العنف خصوصاً مع أصدقائهم في المدرسة، حيث يتفنن بعض الأطفال ويبرعون في اختراع الوسائل الكفيلة بإيذاء الآخرين، وأحياناً كثيرة حتى معلمهم لا يسلم من هذا العنف الموجه تجاه الآخر.

وترى بعض الدراسات أن “ضغوط الحياة المعاصرة، وانشغال الوالدين بالعمل إلى أقصى درجة، وتراجع مكانة الدين، ومن ثم انهيار المعايير الأخلاقية، وهيمنة الروح الاقتصادية القائمة على المكسب والخسارة، بلغة الأرقام فقط، علاوة على برامج العنف في الكمبيوتر التي يفوز فيها من يتمكن من قتل أكبر عدد من الأشخاص، ترى كل ذلك مما يجعل العنف نتيجة حتمية”.

لقد أصبح الطفل يشعر بأنه غريب وحيد في هذا العالم الغامض، إن غياب الوالدين المستمر عن المنزل لضرورة العمل، يجعل الطفل يشعر بأن عليه اختراع الوسائل الكفيلة بحمايته من أي اعتداء خارجي، إنه يتوقع أنه مستهدف في أي وقت، ولا أحد بجانبه يستطيع اللجوء إليه لتوفير الحماية، إن العديد من الأطفال يتخذون من لعبهم وسيلة للدفاع عن أنفسهم، وكثيراً ما يندفعون مبادرين بالهجوم.. في بعض الأحيان قد يصل الأمر إلى حد الاحتفاظ ببعض الآلات الحادة في المحفظة، إيماناً منهم بأن خطراً ما قد يهدد حياتهم.

إن هذه الدرجة من الحرص، ليست مبالغة من الطفل، الذي يقضي أوقاتاً طويلة في مشاهدة أعمال القتل والتعنيف والإجرام على شاشة التلفاز أو مسابقات الكمبيوتر، أو حتى حوادث الشجار العنيف بين الوالدين. إن هذه الوضعية تؤثر سلبياً في الطفل. وكلها أوضاع وأحداث تدفع الطفل إلى أن يتعلَّم منذ حداثة سنه معظم أشكال العنف والقسوة والتمرد.

الطبيعة البشرية

إن طفل اليوم يعتبر ضحية عالمه الغريب المتسارع المتناقض، والأغرب أننا نهاجم الطفل العنيف في كل حالاته، وننكر عليه ذلك، بل ونتبرأ منه في الكثير من الأحيان حتى لو تجسدت عدوانيته في كسر لعبته في لحظة غضب، متناسين أن الجانب العدواني في الطبيعة البشرية يمثل ذراعاً واقية ضد التهديد والخطر، بل والأكثر من هذا يعد حجر الزاوية في الإنجاز والتفوق الفكري والأساس في تحقيق الشخصية الاستقلالية.

فلماذا ننكر على الطفل طبيعته البشرية، ونرفض كل أشكال الإحساس بالألم والمعاناة، والرغبة في التعبير عن الذات بكل الوسائل والطرق المتاحة، مع العلم أننا نحن من هيأنا السبل لذلك، وعززناه باستخدام التكنولوجيا الحديثة.

مع ذلك تبقى الضرورة ملحة في تعليم الطفل كيفية التعبير عمَّا يجول في خاطره، والتفريق بين الخيال والحقيقة، وكذا مراقبة وتقنين كافة الممارسات واحتوائها وبلورتها في صورة إيجابية، تخرج الطفل من وطأة إحساسه بالكبت، إلى التنفيس عن طريق ممارسة بعض النشاطات المفيدة، والرياضات النافعة، كما يقول سيدنا إبن مسعود رضي الله عنه: “وعودوهم الخير فإن الخير عادة”.

آسية إبراهيم بخاري

المصدر: الاتحاد
  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 209 مشاهدة
نشرت فى 26 يوليو 2012 بواسطة alsanmeen

ساحة النقاش

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

1,276,543