أرسل الله سبحانه حبيبه محمداً صلى الله عليه وسلم مفطوراً على الرحمة، فكان رحمة من الله بالأمة في تنفيذ شريعته بدون تساهل، وبرفق وإعانة على تحصيلها، فلذلك جعل لينه مصاحباً لرحمة من الله أودعها الله فيه، إذ بُعث للناس كافة، لكن اختار الله أن تكون دعوته بين العرب أول شيء لحكمة أرادها الله تعالى في أن يكون العرب هم مبلغو الشريعة للعالم.

والعرب أمة عرفت بالأنفة، وإباء الضيم، وسلامة الفطرة، وسرعة الفهم، وهم المتلقون الأولون للدين فلم تكن تليق بهم الشدة والغلظة، ولكنهم محتاجون إلى استنزال طائرهم في تبليغ الشريعة لهم، ليتجنبوا بذلك المكابرة التي هي الحائل الوحيد بينهم وبين الإذعان إلى الحق.

إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ مِثْلُ الْوَالِدِ

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في محبته لأصحابه ورعايته لهم وتربيتهم مثل الوالد بل أحرص حتى وصفه ربه بأنه: (... حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم)، فقد فطره سبحانه على الخلق العظيم ومدحه على ثباته على هذا الخلق فقال تعالى: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ)، وقد أعرب رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَليْهِ وسَلَّمَ عن محبته لأمته بقوله: “إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ مِثْلُ الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ، أُعَلِّمُكُمْ...”، وقد تجلت محبته صلى الله عليه وسلم لأصحابه منذ نشأته فقد صحب أبا بكر، وأحسن صحبته، بل صحبة جميع الناس حتى كانوا يُودِعون عنده الأمانات، لما يعلمون من طهارة نسبه وكريم خصاله وصدقه وأمانته صلى الله عليه وسلم؛ وقد أعجب به عمه أبو طالب حتى قال في خطبته عندما خطب له خديجة بنت خويلد: الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم، وزرع إسماعيل، وجعل لنا بلداً حراماً، وبيتاً محجوجاً، وجعلنا الحكام على الناس، ثم إن محمد بن عبدالله ابن أخي لا يوازن به فتى من قريش إلا رجح به براً، وفضلاً، وكرماً، وعقلاً، ومجداً، ونبلاً، وإن كان في المال قل فإنما المال ظل زائل، وعارية مسترجعة...، فكان صَلَّى الله عَليْهِ وسَلَّمَ خير الأزواج، أكرم خديجة وآثرها على نفسه وهو القائل: (خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لأَهْلِهِ، وَأَنَا خَيْرُكُمْ لأَهْلِي).

 

نظر بعين الرحمة والعطف إلى أصحابه، فدافع عنهم ونهى عن ظلمهم، وصعب عليه رؤيتهم وهم يعذبون، حتى قال يا أبا بكر: إن بلالاً يعذب في الله؛ ففهم أبو بكر الإشارة وسارع في إعتاق بلال بكل ما يستطيع، وكان قد أعتق رضي الله عنه ست رقاب، بلال سابعهم فعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: “أَعْتَقَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَبْعَةً مِمَّنْ كَانَ يُعَذَّبُون فِي اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، مِنْهُمْ بِلَالٌ، وَعَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ”، واغتم لما نال صحابته من أذى المشركين، فتوجه إلى الله تعالى بالدعاء فأراه سبحانه دار هجرته، فلم يهاجر حتى آخى بين كل اثنين على النصرة والتوارث والهجرة، واطمأن على وصولهم سالمين، كما يطمئن الوالد على أولاده؛ حتى أذن له سبحانه بالهجرة، فهاجر امتثالاً لأمر ربه، لكنه شقَّ عليه بقاء بعض المستضعفين من المؤمنين بمكة، الذين يعذبون ولا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا، فكان يدعو لهم حين يفرغ من صلاة الفجر من القراءة يكبر ويرفع رأسه “سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد”. ثم يقول وهو قائم: “اللهم أنج الوليد بن الوليد وسلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة والمستضعفين من المؤمنين...”، فجعله الله أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فقال تعالى: (النبي أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ)، وفي قراءة ابن مسعود رضي اللّه تعالى عنه “النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهو أب لهم وأزواجه أمهاتهم”. وقرأ أبي بن كعب رضي اللّه تعالى عنه: “النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم”، فكان صَلَّى الله عَليْهِ وسَلَّمَ يقول: “أنا أولى بكل مؤمن من نفسه من ترك مالاً فلأهله ومن ترك ديناً أو ضياعاً فإليَّ وعليَّ”. “الضَياع بفتح الضاد العيال”، (صحيح مسلم)، وفي رواية: “أَنَا أَوْلَى بِكُلِّ مُؤْمِنٍ مِنْ نَفْسِهِ فَمَنْ تَرَكَ دَيْنًا أَوْ ضَيْعَةً فَإِلَيَّ وَمَنْ تَرَكَ مَالاً فَلِوَرَثَتِهِ وَأَنَا مَوْلَى مَنْ لاَ مَوْلَى لَهُ...”.

الرحمة المهداة

ذَكَّرَ الله تعالى المؤمنين بالمنّة العظمى عليهم ببعثة خاتم المرسلين فقال سبحانه: (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ)، أي والله لقد أنعم الله على المؤمنين حين أرسل إِليهم رسولاً عربياً من جنسهم، عرفوا أمره وخبروا شأنه، وخصَّ تعالى المؤمنين بالذكر وإِن كان رحمة للعالمين، لأنهم هم المنتفعون ببعثته (يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ) أي يقرأ عليهم الوحي المنزل (وَيُزَكِّيهِمْ) أي يطهرهم من الذنوب ودنس الأعمال (وَيُعَلِّمُهُمُ الكتاب والحكمة) أي يعلمهم القرآن المجيد والسنة المطهرة (وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ) أي وإِنه الحال والشأن كانوا قبل بعثته في ضلال ظاهر، فنقلوا من الظلمات إِلى النور، وصاروا أفضل الأمم. فرسول الله صَلَّى الله عَليْهِ وسَلَّمَ هدية عظيمة من الله تعالى وهو رسول رحمة وهداية فكَانَ يُنَادِيهِمْ: “يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا رَحْمَةٌ مُهْدَاةٌ”، فمن رحمته صلى الله عليه وسلم بهم أخبرهم أن هذا الدين يسر فقال: “إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلاَّ غَلَبَهُ فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ”،، لم يُكْرِه الناس على تطبيق الشريعة الإسلامية لكنهم اعتنقوها حباً وطواعية لأنها من مصدر رباني جعل لهم حرية واختياراً، (لا إكراه في الدين) ولأنهم وجدوا فيها خيري الدنيا والآخرة، ووجدوا رسول الله صَلَّى الله عَليْهِ وسَلَّمَ أول عامل بها، حثهم على تطبيقها برحمة ولين وعطف أبوي منقطع النظير؛ وهذا أيضاً من فضل الله عليهم: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ). قال الأصم: “ما” في قوله: (فَبِما رَحْمَةٍ) صلة زائدة؛ وقال أبو مسلم: معاذ اللّه أن يكون في القرآن زيادة ولغو. والأصح قول أبي مسلم لأن اللّه تعالى وصف القرآن بكونه هدى وبياناً، وكونه لغواً ينافي ذلك، قال القرطبي: “فَبِما” صلة فيها معنى التأكيد، أي فبرحمة، وليست بزائدة على الإطلاق، وإنما أطلق عليها سيبويه معنى الزيادة من حيث زوال عملها. وقال ابن كيسان: “فَبِما” نكرة في موضع جر بالباء (ورَحْمَةٍ) بدل منها. ومعنى الآية: أنه عليه الصلاة والسلام لما رفق بمن تولى يوم أحد ولم يعنفهم بيَّن الرب تعالى أنه إنما فعل ذلك بتوفيق الله تعالى إياه، قال ابن عاشور: الفاء للتفريع على ما اشتمل عليه الكلام السابق الذي أخبر فيه عن مخالفة طوائف لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم من مؤمنين ومنافقين، وما حكي من عفو الله عنهم فيما صنعوا. ولأن في تلك الواقعة المحكية بالآيات السابقة مظاهر كثيرة من لين النبي صلى الله عليه وسلم للمسلمين، حيث استشارهم في الخروج، ولم يثرب عليهم ما صنعوا من مغادرة مراكزهم، ولما كان عفو الله عنهم يعرف في معاملة الرسول صلى الله عليه وسلم إياهم، أَلانَ الله لهم الرسول تحقيقا لرحمته وعفوه، فكان المعنى: ولقد عفا الله عنهم برحمته، فَلَانَ لهم الرسول صلى الله عليه وسلم بإذن الله وتكوينه إياه راحما، قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ).

والباء للمصاحبة، أي لنت مع رحمة الله: إذ كان لينه في ذلك كله لِيناً لا تفريط معه لشيء من مصالحهم، ولا مجاراة لهم في التساهل في أمر الدين، فلذلك كان حقيقاً باسم الرحمة.

وتقديم المجرور مفيد للحصر الإضافي، أي: برحمة من الله لا يغير ذلك من أحوالهم، وهذا القصر مفيد التعريض بأن أحوالهم كانت مستوجبة الغلظَ عليهم، ولكن الله أَلانَ خُلُقَ رسوله صلى الله عليه وسلم رحمة بهم، لحكمة علمها الله في سياسة هذه الأمة.

واللين هنا في سعة الخلق مع أمة الدعوة والمسلمين، وفي الصفح عن جفاء المشركين، وإقالة العثرات. ودل فعل المضي في قوله: (لنت) على أن ذلك وصف تقرر وعرف من خُلُقِهِ، وأن فطرته على ذلك برحمة من الله إذ خُلُقُهُ كذلك (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ)، “الأنعام: الآية 124”، فَخُلُقُ الرسول صلى الله عليه وسلم مناسبا لتحقيق حصول مراد الله تعالى من إرساله، لأن الرسول يجيء بشريعة يبلغها عن الله تعالى، فالتبليغ متعين لا مصانعة فيه، ولا يتأثر بخلق الرسول صلى الله عليه وسلم وهو أيضاً مأمور بسياسة أمته بتلك الشريعة، وتنفيذها فيهم، وهذا عمل له ارتباط قوي بمناسبة خلق الرسول صلى الله عليه وسلم لطباع أمته حتى يلائم خلقه الوسائل المتوسل بها لحمل أمته على الشريعة الناجحة في البلوغ بهم إلى مراد الله تعالى منهم، فكان عليه الصلاة والسلام رحيماً حتى بأعدائه، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قيل يا رسول الله ادع على المشركين فقال: “إني لم أبعث لعانا وإنما بعثت رحمة”. بل عمت رحمته جميع العوالم.

محمد جمال مصري

 

المصدر: الاتحاد
  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 121 مشاهدة
نشرت فى 24 يوليو 2012 بواسطة alsanmeen

ساحة النقاش

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

1,276,396