الكمال الخلقي أمر فطري متأصل في الإنسان ، فليست الفطرة الإنسانية ميالة إلى الشر لأن الله سبحانه خلقها خيرة في جوهرها، إلا أن الإنسان منذ أن يولد يجد نفسه في بيئة اجتماعية معينة، وهذا يجعله يستوعب منذ الخطوات الأولى قيم البيئة الاجتماعية وأعرافها وتقاليدها ، فيصبح يتصرف من خلال عقلية المجتمع وقوانينه ، فيختلط الخير بالشر والحق بالباطل مصداقا لقوله صلى الله عليه وسلم: مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ، وهنا يتدخل الشرع لضبط سلوكيات الناس وإشاعة الخير في المجتمع ، ووضع حد لطغيان الشر، فالشرع يحمي المجتمع من اللاتوازن ويحقق الاعتدال والتوسط في الأخلاق.

لهذه الأهمية التي تحظى بها الأخلاق اعتبرت جوهر الإسلام وروحه بل غاية البعثة النبوية القصوى، حيث قال صلى الله عليه وسلم: بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ حُسْنَ الْأَخْلَاقِ، وبين صلى الله عليه وسلم ما في محاسن الخلق من أجر وثواب بقوله: مَا مِنْ شَيْءٍ أَثْقَلُ فِي الْمِيزَانِ مِنْ حُسْنِ الْخُلُقِ، وقال أيضا: إِنَّ صَاحِبَ حُسْنِ الْخُلُقِ لَيَبْلُغُ بِهِ دَرَجَةَ صَاحِبِ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ، بل يفوق العابد بأخلاقه، يقول عليه السلام: إِنَّ الْعَبْدَ لَيَبْلُغُ بِحُسْنِ خُلُقِهِ عَظِيمَ دَرَجَاتِ الآخِرَةِ ، وَشَرَفَ الْمَنَازِلِ، وَإِنَّهُ لَضَعِيفُ الْعِبَادَةِ، وَإِنَّهُ لَيَبْلُغُ بِسُوءِ خُلُقِهِ أَسْفَلَ دَرَجَةٍ فِي جَهَنَّمَ، لهذا كللت العبادات بالأخلاق فما من عبادة يتقرب بها إلى الله تعالى إلا وهي مصحوبة بحسن الخلق، وزينت بها المعاملات فما من معاملة بين الناس إلا وقد جاء فيها الحث على حسن الخلق.

مكارم الأخلاق

فالقرآن الكريم وهو مصدر الأخلاق الإسلامية الأول، جمع مكارم الأخلاق خير جمع، ونظمها خير تنظيم، والتطبيق العملي للأخلاق الإسلامية أخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم فسار به خير سير وقام به خير قيام ، فقد كان خلقه القرآن بل كان قرآنا يمشي على الأرض، فالفضائل والآداب العامة قد بلغت ذروة كمالها وأوج مكارمها في الرسول صلى الله عليه وسلم ، فهو ينبوعها وملاك محاسنها حتى أن الله تعالى أثنى عليه عندما قال في حقه صلى الله عليه وسلم : “ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ”، لذلك حثنا الله سبحانه على الاقتداء به وحذو حذوه في كريم خلاله ومحاسن الآداب فقال سبحانه : لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ كي يبقى صلى الله عليه وسلم النموذج الأكمل والمثل الأعلى لكل مسلم في كل ما يأتي به ويذر من أقوال وأفعال، سالكا مسلك الاعتدال والتوسط بعيدا عن الإفراط والتفريط . قال أنس رضي الله عنه: « خَدَمْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشْرَ سِنِينَ بِالْمَدِينَةِ وَأَنَا غُلَامٌ لَيْسَ كُلُّ أَمْرِي كَمَا يَشْتَهِي صَاحِبِي أَنْ أَكُونَ عَلَيْهِ مَا قَالَ لِي فِيهَا أُفٍّ قَطُّ وَمَا قَالَ لِي لِمَ فَعَلْتَ هَذَا أَوْ أَلّا فَعَلْتَ هَذَا »: إن الله سبحانه فطر الناس على حب الفضائل، وغرس في فطرتهم أصول الأخلاق السامية وحبب إليهم العمل بها، فإذا انحرفت الفطرة وخرجت عن سمتها بموجب البيئة الاجتماعية والمؤثرات الخارجية كان من فضل الله على عباده أن جعل الأخلاق على ألسنة رسله فذموا الرذائل وقبحوها، ومدحوا الفضائل وحسنوها، ولم يتركها خاضعة لرغبات الناس وتصوراتهم، التي قد تخطئ وتضل وتنحرف عن منهج الاستقامة ويحدث الغلو والجفاء، بل ارتقى بها سبحانه إلى أعلى الدرجات وأسماها أن نسبها إلى نفسه، في صفاته الكاملة وأسمائه الحسنى ليكون النموذج الأمثل لكل مسلم في أخلاقه، وبذلك يتوافق الدين مع الفطرة السوية والطبع السليم ليحقق للإنسان توازنه واعتداله وسعادته في الدنيا والآخرة.

 

استقامة الفرد

والصيام كذلك شرع ليكون سبيلا لتحقيق استقامة الفرد فقال عليه السلام:« ليس الصيام من الأكل والشرب إنما الصيام من اللغو والرفث».

كذلك فريضة الحج جعلها الإسلام رحلة إيمانية من أجل التغيير الاجتماعي والارتقاء الأخلاقي والسمو الروحي، وهكذا تكون العبادات منهجا متكاملا لتأصيل القيم الأخلاقية في المجتمع المسلم ، وإن لم تتماثل في المسلم تلكم المقاصد فهي مجرد طقوس جوفاء لا يرضاها الإسلام ولا يقبلها، لهذا السبب كانت الأخلاق في الإسلام موصوفة بصفتين رئيسيتين:

الأولى: الشمولية، فالأخلاق في الإسلام رسمت للإنسان منهجا متكاملا شاملا متناسقا مع طبيعته، لم تدع جانبا من جوانب الحياة إلا ورسمت له المنهج الأمثل للسلوك الرفيع، فشملت علاقته بربه وعلاقته بذاته وعلاقته بمحيطه.

الثانية: الواقعية، تراعي الطاقة المتوسطة للإنسان وتعترف بإمكاناته ورغباته فتقيم توازنا بينهما، وتدفع عنهما الغلو والجفاء، وتحمله على اعتدال أخلاقه وتوسطه فيها بين طرفي الإفراط والتفريط . ومن أهم سمات هذا الدين أنه وسط في الأخلاق، وسط في الأخلاق الفردية فلا يقسو بأحكامه على الإنسان في حياته الخاصة، فلا يحرمه من طيبات العيش وحلال المطعومات، وهو وسط في الأخلاق الاجتماعية بجعل العدل القاعدة الأساسية للتعامل بين الناس ، فهو ينوء بهم عن الإفراط والتفريط في تعاملاتهم، فالأوساط فضائل والأطراف رذائل، والفضيلة موقف وسط متساوي البعد عن طرفي صفتين رذيلتين، والوسطية مصدر الراحة النفسية عندما يجد الإنسان أنه ابتعد عن الشر وبلغ الخير ، فيسعد في دنياه وأخراه.

د.سالم بن نصيرة

 

المصدر: الاتحاد
  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 101 مشاهدة
نشرت فى 22 يوليو 2012 بواسطة alsanmeen

ساحة النقاش

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

1,310,517