بقلم الدكتور محمود عبد الله إبراهيم نجامدرس مساعد بقسم الفارماكولوجيا الاكلينيكيهكلية طب- جامعة المنصورة - مصرتعودنا إخوة الإسلام في كل رمضان على سؤال شهير في اغلب بيوت المسلمين التي لا تكاد تخلو من مريض يقول (هل أصوم رمضان لأن في الصيام شفاء من كل داء كما نسمع من بعض الدعاة، أم أفطر لأن في الصيام مشقة قد تزيد من شدة المرض؟). و المشاهد أن أكثر المرضى المسلمين حتى و إن كان مرضهم شديد يحرصون على صيام رمضان حبا في الله حتى و إن عرضهم ذلك إلى المخاطر.و لذا فان هدفي الرئيسي في هذا المقال بإذن الله أن نحاول معاً أن نتعرف على وسطية الإسلام في كيفية التعامل مع المرضى في شهر الصيام و ذلك من خلال الإجابة على سؤالين في غاية الأهمية:1. هل هناك إعجاز علمي في الربط بين الصيام و الشفاء من الأمراض؟2. كيف نصل إلى الصحة البدنية و النفسية من خلال الصيام؟و مما لا شك فيه أن كل تشريع في الإسلام له من الحكم و الفوائد الكثير مما لا يحصيه العقل و لا يستوعبه العلم و لا يحيط بعلمه إلا الله العليم بأحوال الخلق و بما يصلحهم من أمر كما قال تعالى {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ }الملك14، و قال تعالى { أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}الأعراف54، و قوله تعالى {وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ }فاطر14.و لكن الأصل الأصيل في الحكمة من كل عبادة أن تكون التقرب إلى الله كما قال تعالى {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }الأنعام162، و قال تعالى {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَّهُ دِينِي }الزمر14، و قال صلى الله عليه و سلم (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرىء ما نوى) البخاري، و لذا وجب على كل مسلم أن تكون غايته في كل عبادة إرضاء الله أولا و أخيراً و ليس تحصيل فائدة دنيوية قد تتحقق أو لا تتحقق.و قد عرف الإنسان الصيام من قديم الزمان، فاتخذه المتدين وسيلة لإرضاء الرب، كما مارسه الوثني والكافر طريقا لتهذيب النفس وترويض البدن. وصوم رمضان في شريعة الإسلام ركن من أركان الدين، فرضه الله لحكمة سامية تربط قلوب المسلمين بتقوى الله و ليس بالمنافع الدنيوية العاجلة، و لذا قال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}البقرة183.فالصوم في الإسلام ليس رياضة بدنية الهدف منها إنقاص الوزن وتعذيب النفس وقهرها ليسهل انقيادها والسيطرة عليها، و لا رياضة روحية بالمعنى الذي تمارس به بعض الطقوس الهندية بهدف زيادة التركيز أو الترقي أو غيره من أغراض دنيوية، وإنما الصوم عبادة لله من أجّل العبادات، فهو سر بين العبد وربه، والله هو الذي يجزي به فقال (كُل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به) رواه البخاري، و إنما تأتي كافة المنافع الأخرى، تبعا لذلك أو زيادة على ذلك. و أحد هذه المنافع الدنيوية و الحكم الربانية التي بدأت تتكشف للصيام بجلاء في عصرنا الحديث، هو تحصيل الصحة البدنية و النفسية، و بدلا من حمد الله و شكره على هذه النعمة الإضافية للصيام فوق نعمة العبودية، بدأنا نتجادل حول قدرة الصيام على الشفاء من الأمراض، فصار البعض يتحدث عن الإعجاز العلمي في التداوى بالصيام و انه شفاء لكل داء، و كالمعتاد أنكر البعض و غالبهم من الماديين، أن يكون للصيام أي دور في عملية التداوى من الأمراض، و بيت الإفراط و التفريط وقف المريض حائرا لا يدرى لأي الرأيين يميل.و بين الإفراط و التفريط يقف دين الإسلام شامخا بوسطيته المعهودة ليقدم المنهج الوسط للأمة الوسط في كل أحوالها كما قال تعالى {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً}البقرة143، و مع اعترافي التام كطبيب مسلم بأن الصيام قد يساعد على الشفاء من بعض الأمراض، إلا أنني لا أستطيع أن أسميه إعجازا علمي لأنها حقيقة معلومة في زمن النبي و قبل زمنه و لم يأتي النبي صلى الله عليه و سلم بنص صريح يدل على دور الصيام في الشفاء، و الأحسن أن نقول أن من بعض حكم الصيام انه يساعد على التداوى من بعض الأمراض شريطة الالتزام بنظم التغذية الإسلامية و أوامر الطبيب المعالج. و هذا هو المنهج الوسطى في التعامل مع الصوم، و هو الأولى بالإتباع من الإفراط و التفريط الذي قد يدفع بأعداء الإسلام إلى الانتقاص من عظمة الإسلام إذا قلنا لهم الصيام شفاء من كل داء أو قلنا لهم لا شفاء في الصيام على الإطلاق.* لماذا يُعد الحديث عن الإعجاز العلمي في الاستشفاء بصيام رمضان أمر مبالغ فيه بعض الشيء؟1. لغياب النص الصريح على كون الصيام شفاءفكيف ندخل بالصيام إلى بوابة الإعجاز العلمي بدون دليل واحد يشير إلى أن في الصيام صحة و شفاء كما في العسل و ما يخرج من بطون النحل، حيث قال تعالى { يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاء لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ }النحل69.و مع العلم بأن حديث (صوموا تصحوا) ضعيف و بعض رواياته منكرة، فلا يعتد به في قضايا الإعجاز العلمي.كما أننا إذا بحثنا عن تفسير لقول الله تعالى {فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } البقرة184، في كتب أوائل المفسرين نجد أنهم اجمعوا على ذكر خيرية الآخرة فقط لحسن الثواب الذي يحصل عليه الصائم.2. الفوائد الطبية للصيام لا تتحقق إلا بالهدوء النفسي و إتباع النظم الغذائية الإسلامية العامة المذكورة في القرآن و السنة.و المفترض فينا كمسلمين أن نطبق هذه الأمور طوال العام لقوله تعالى (كلوا و اشربوا و لا تسرفوا) و لقول النبي صلى الله عليه و سلم (بحسب ابن آدم لقيمات) و لقول النبي صلى الله عليه و سلم (لا تغضب) و (ليس الشديد بالسرعة...) و غيرها الكثير.فالمسلم إذا اتبع القواعد السابقة صح بدنه طوال العام فلا يحتاج إلى الطبيب، و إن كانت هناك من نتائج طبية من الصيام فهي لا تخرج عن الأدلة العامة السابق ذكرها.3. الصيام ليس عبادة خاصة بالمسلمين فقط.بل فعلها السابقون و بنص القرآن {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }البقرة183، و بالتالي فالإسلام ليس أول من شرع الصوم و عرف فوائده الطبية حتى نقول بأن في الصوم إعجاز علمي اسلامى. و حتى نقول بان الصوم معجزة إسلامية على المستوى العلمي ينبغي أن نقوم بتجربة علمية نثبت فيها أن نظام الصوم الاسلامى بالإمساك عن الطعام و الشراب و الشهوة من الفجر إلى المغرب لمدة شهر باستخدام التقويم الهجري فيصوم المسلم مرة في الحر و أخرى في البرد و هكذا، فنثبت أن هذا النظام الاسلامى هو الأفضل على الإطلاق بين كل نظم الصوم التي عرفتها البشرية، و هذه مسألة تحتاج إلى بحث مضني، و لا يكتفي فيها أبدا بالاطلاع على نتائج الدراسات الأجنبية التي تتكلم عن الصوم، فبعد الاطلاع على أغلبها وجدت أن هذه الدراسات لا تستخدم النظام الاسلامى للصوم في تجاربهم بل يستخدمون أنظمة متباينة من التجويع لفترات متباينة لا توافق النظام الاسلامى في مواعيد تناول الطعام و مدة الصيام.4. معلوم أن في الصيام مشقة.ولذا فرضه الله ككفارة للمسلم في بعض المعاصي كما في قوله تعالى {فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ}المائدة95.فإذا ثبتت مشقة الصيام شرعا عرفنا انه قد يضر ببعض الأمراض و لا ينفع فيها و لذا جاء التيسير من الله تعالى برفع مشقة الصوم عن المريض و المسافر كما في قوله تعالى {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}البقرة185.5. لا يعقل أن يكون في الصيام شفاء من كل داء ويسكت عن ذلك النبي.فالنبي صلى الله عليه و سلم لم يعلم خيرا قط إلا علمنا إياه، فكيف به لا يخبرنا بأمر الشفاء المترتب على الصيام.و هو بأبي و أمي صلى الله عليه و سلم الذي اخبرنا بالخير كله في وجبة السحور فقال صلى الله عليه و سلم (تسحروا فإن في السحور بركة) متفق عليه، و قال صلى الله عليه و سلم (عليكم بغداء السحور فإنه هو الغداء المبارك) رواه النسائي و صححه الألباني، و قد فسر علماء الحديث هذه البركة بأنها بركة في الدنيا أو الآخرة ، فالذي يستيقظ لتناول السحور ربما صلى الفجر في المسجد وربما سمع آية قرآنية بعد صلاة الفجر تركت أثرا بليغا في نفسه وربما ذكر الله خاليا ففاضت عيناه بالدموع وربما تلا القرآن فكان ربيع قلبه، فهذه بركة الآخرة .أما بركة الدنيا فتناول طعام السحور يعطي طاقة ووقود للجسم خلال النهار و أعماله الشاقة . ويقول صلى الله عليه وسلم في فضل تأخير السحور (بكروا بالإفطار وأخروا السحور) السلسلة الصحيحة للألبانى، وفي هذا لا شك توازن زمني بين الوجبتين التي يتناولهما الصائم ، فإذا اقترب السحور من الفطر ، طالت فترة الصوم ، واضطرب التوازن المطلوب ، ومن ثم حتى لا يحدث شبع زائد في فترة ، وجوع شديد في فترة أخري.كما اخبرنا صلى الله عليه و سلم بالخير كله في وجبة الإفطار (من وجد تمراً فليفطر عليه ، و من لا يجد فليفطر على الماء فإنه طَهور) رواه الترمذي و النسائي و ابن ماجة و صححه الألباني. والثابت عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه كان يفطر على التمر قبل أن يصلي ، و في إفطاره صلى الله عليه و سلم على الرطب أو التمر ما يظهر نور النبوة و ذلك لما أثبته العلم في السنوات الأخيرة عن أهمية الإفطار على التمر و ذلك لأن الصائم يعتمد على ما يوجد بجسمه من سكر و خاصة المخزون منه في الكبد. و السكر الموجود في طعام السحور يكفي 6 ساعات فقط من السحور و بعد ذلك يبدأ الإمداد من المخزون الموجود بالكبد ، و من هنا فإن الصائم إذا أفطر على التمر أو الرطب والتي تحتوي على سكريات أحادية مثل الفركتوز ، فإنها تصل سريعاً إلى الكبد و الدم الذي يصل بدوره إلى الأعضاء و خاصة المخ فيعطى الجسم الطاقة اللازمة له بعض الإفطار. أما الذي يملأ معدته بالطعام و الشراب فيحتاج لمدة من ساعتين إلى ثلاثة ساعات حتى تمتص أمعاؤه السكر ويستفيد منه كطاقة للجسم.كما نهانا صلى الله عليه و سلم عن صيام الوصال لما فيه من الضرر البين الذي أثبته العلم الحديث فقال صلى الله عليه و سلم (إياكم والوصال) متفق عليه، فالوصال هو حرمان البدن من المواد الغذائية ليوم أو أكثر، وقد دلت التجارب على أن الجسم يحصل على الطاقة أثناء الصيام من مدخراته السكرية أولاً والتي تكون على شكل جليكوجين مدخر في الكبد والعضلات. فإذا طالت مدة الصيام يلجأ البدن إلى مدخراته الدهنية و البروتينية من أجل الحصول على الطاقة، وهذا يعني تخريب الأنسجة و ظهور اضطرابات غذائية عصبية في الدماغ المتوسط مما يؤثر على الغدد الصماء وعلى السلوك والانفعال النفسي. و من هنا نرى أهمية كون الصيام الإسلامي مؤقتاً من الفجر إلى الغروب دون تحريم لنوع ما من الأغذية مع طلب الاعتدال وعدم الإسراف في الطعام في فترة الإفطار.كما ربط صلى الله عليه و سلم بين الصوم و أثره في الحد من الشهوة الجنسية، فقال (يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء) متفق عليه، و قد اكتشف العلماء حديثا قدرة الصيام على تقليل الشهوة من خلال الانشغال النفسي بالتفكير في الطاعة بالإضافة إلى تأثير الصيام على الهرمونات الجنسية.و صدق رسول الله العظيم وصدق كلامه الكريم الذي لا ينطق عن الهوى، فكل يوم يثبت العلم المزيد والمزيد من الحقائق العلمية التي حدثنا عنها رسولنا الكريم منذ مئات السنين والتي تثبت أن رسولنا حق ورسالته حق وكتابه حق وكلامه حق، { وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى. إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى } 3-4 النجم.فهل بعد كل هذا الإعجاز العلمي السابق ذكره في السحور و الإفطار و النهى عن الوصال و الحد من الشهوة الجنسية بالصيام، نتهم النبي صلى الله عليه و سلم بأنه نسى أن يعلمنا أن للصيام فوائد صحية.و لعلى لا أكون مغاليا إذا قلت بان غياب النص الذي يربط بين الصيام و الشفاء لهو الإعجاز العلمي بعينه، لأن في ذلك دلالة قوية على وسطية الإسلام الذي يراعى أحوال المكلفين فلا يشق عليهم في التكليف. فتخيلوا معي إخوة الإسلام أن الله تعالى قال بأن في الصيام نفع عام لكل الناس و ينبغي أن يصوم كل الناس بما فيهم المرضى، أو قال بأن الصيام مشقة بالكامل فلا يصوم إلا الصحيح و ينبغي على كل مريض أن يفطر، ثم أتى العلم الحديث ليثبت أن الصيام قد ينفع بعض الأمراض و قد يضر ببعض الأمراض، ساعتها سوف يظهر من يتهم التشريع الاسلامى بالقصور و انه من صنع البشر.و إذا نظرنا إلى آيات الصيام في سورة البقرة ، نجد أن البيان القرآني العظيم يدعو المرضى بعدم الصيام في شهر رمضان رحمة بهم كما قال تعالى {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}البقرة184، و تكررت هذه الآية للتأكيد على تغليب اليسر على حساب العسرفى كل زمان { وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}البقرة185.وقد يحتج بعض المرضى بقوله تعالى {فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ }البقرة184، ولكن أغلب الظن أن المحتج بالآية لم يلحظ معنى قوله تعالى (إن كنتم تعلمون)، والتي يمكن فهمها على الشكل التالي : إن كنتم تعلمون أن في الصيام خير لكم صحياً ، وهذا الجزء من البيان الإلهي يتوافق مع المرضى الذين يعتبر الصيام وإنقاص الوزن والتقليل من الطعام وتغليب العمل على التخمة من الطعام علاجاً أساسياً لهم ، كما هو الحال عند بعض الأنواع من مرض السكري التي سيرد ذكرها لاحقاً ، وللآية مدلول آخر لبعض من نسميهم مرضى بلغتنا الطبية ، بينما هم قادرون على الصيام ، مثل المصابين بالإعاقة الجسدية كالأعمى والأعرج والأخرس ، فمثل هؤلاء و غيرهم الكثير يمكنهم الصيام وهو خير لهم على الرغم من إصابتهم بمرض مزمن قد لا يزول.فهذه هي وسطية الإسلام النافعة لكل البشرية و الداحضة لافتراءات أعداء الإسلام ظهرت جلية في قول الله تعالى {وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ }البقرة184، قال ابن عاشور في تفسيره التحرير و التنوير ( الآية تدل على الترغيب في الصوم وإن كان فيه المشقة لبعض الناس كالمسن والمريض والمسافر، فيكون التفضيل للصوم على الفطر إلا في المرض ففيه تفصيل يحسب شدة المرض، وقوله (إن كنتم تعلمون) أي إن كنتم تعلمون فوائد الصوم في الدنيا وثوابه في الآخرة. وجئ في الشرط بكلمة ( إن ) لأن علمهم بالأمرين من شأنه أإلا يكون محققا ؛ لخفاء الفائدتين.....انتهى بتصرف).و ملخص قول ابن عاشور هو و أن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون أن في الصوم خير لكم، و لما كان هذا العلم لا يظهر إلا بالدراسات العلمية، كان للطبيب دوره العظيم في تحديد الذي يستفيد من الصيام و الذي يتضرر منه، و هذا هو إعجاز الوسطية في دين الإسلام، فالمرضى على درجات فلا ينصحوا كلهم بالفطر لأن الصيام قد يكون فيه النفع و الشفاء للبعض، و لا ينصحوا كلهم بالصيام لأن بعض المرضى قد يصيبهم المرض بسبب الصيام، فالصيام كالدواء ينفع و يضر، و لا يستطيع تحديد النفع و الضرر هنا إلا الطبيب المسلم من أهل الاختصاص. فكلمة "مريض" قد تبدو غير محددة، فقد تبتدئ بأبسط الأمراض، وتنتهي بالأمراض المستعصية التي لا يرجى برؤها، وترك الله تعالى للطبيب الأخصائي المسلم أن يقرر ما إذا كان المريض قادرا على الصوم، أم أن في الصوم ضررا على المريض وحياته. فإذا أخبر الطبيب المسلم مريضه أنه إذا صام أدى صيامه إلى زيادة المرض عليه أو إلى هلاكه، وجب عليه الإفطار ، بحيث أنه إذا صام ومات، فإنه آثما كما يذهب إلى ذلك كثير من العلماء والفقهاء.ومما لا شك فيه أنه لا ينصح بالصوم في أمراض معينة، في حين هناك أمراض أخرى يكون لها الصيام علاجا، و لنضرب لذلك بعض الأمثلة حتى يتضح المقال:1. مرضى القلبلا شك أن في الصيام فائدة عظيمة لكثير من مرضى القلب شريطة تناولهم الدواء بانتظام. ويفيد الصيام في علاج ارتفاع ضغط الدم، فإنقاص الوزن الذي يرافق الصيام يخفض ضغط الدم بصورة ملحوظة. أما المريض المصاب بالذبحة الصدرية فيستطيع الصيام إذا كانت أعراض الذبحة مستقرة بتناول العلاج، ولا يشكو المريض من أي ألم صدري.و مع ذلك فلا ينصح المرضى المصابون بالذبحة الصدرية غير المستقرة، أو الذين يحتاجون إلى تناول حبوب النيتروجليسرين تحت اللسان بالصيام. كما لا ينصح مرضى الجلطة الحديثة بالصيام إلا إذا تماثل المريض للشفاء، وعاد إلى حياته الطبيعية، فيمكن الصيام مع تناول الأدوية بانتظام. وينصح المريض المصاب بقصور القلب (فشل القلب) الحاد بعدم الصيام، حيث يحتاج إلى تناول المدرات البولية، وربما بجرعات عالية.2. مرضى الجهاز الهضميكثيرا ما تتحسن أعراض عسر الهضم بصيام رمضان. و أيضا يستطيع المصابون بقرحة مزمنة الصيام، شريطة تناول الأدوية المثبطة لإفراز الحمض المعدي عند السحور وعند الإفطار، أما إذا كان هناك مضاعفات خطيرة للقرحة كالنزيف، أو كان تعب القرحة يزيد بالجوع، ففي هذه الحالة ينصح المريض بالإفطار. كذلك المريض المصاب بالإسهال، ينصح بالإفطار، وخاصة إذا كان الإسهال شديدا، فالمريض في تلك الحالة بحاجة إلى تعويض ما يفقده من سوائل وأملاح بسبب الإسهال.3. مرضى السكرهناك من المرضى المصابين بالداء السكري من يستطيع الصوم في رمضان دون مشقة تذكر، ومنهم من لا يسمح له أبدا بالصيام. فالمريض المصاب بالسكري الكلي ( سكر النضج ) الذي يعالج بالحمية الغذائية فقط يستطيع الصيام، بل إن الصيام يفيد في علاج مرضه. كما يستطيع المصاب بالسكري الكلي الذي يعالج بالأقراص الخافضة لكسر الدم صيام رمضان شريطة الانتباه إلى تعليمات الطبيب بشأن تغيير مواعيد وجرعة الحبوب. أما إذا كان المريض يتناول الأنسولين يوميا كعلاج للسكر فإن موضوع الصوم متروك تماما للطبيب المعالج، فإذا سمح بالصوم، فينصح بأخذ جرعة الأنسولين قبل وجبة الإفطار مباشرة. ولا ينصح المريض الذي يتعاطى أكثر من 40 وحدة أنسولين يوميا بالصوم أبدا.* كيف نصل إلى الصحة البدنية و النفسية من خلال الصيام؟الصيام من الناحية البدنية و النفسية له فوائد عظيمة، فمن الناحية البدنية فيه فترة راحة للجهاز الهضمي المسئول عن استهلاك امتصاص الطعام ، وبالتالي فالكبد أيضا يأخذ فرصة استراحة كونه معمل الأيض الرئيسي للغذاء في الجسم بالإضافة إلى التخلص من السموم . كما يساعد الصيام على إنقاص الوزن المعتدل من خلال استهلاك السكريات و الدهون في النسيج الشحمي لتحويلها إلى طاقة لازمة للجسم، ولهذا يعتبر الصيام فائدة كبيرة لدى زائدي الوزن ، وحتى لمرضى السكر المعتدل غير المعتمدين على الأنسولين. كما يساعد الصيام على نقص مستوى كولسترول الدم وانخفاض نسبة ترسبه على جدران الشرايين الدموية ، وهذا بدوره يقلل من الجلطات القلبية والدماغية ويجنب ارتفاع الضغط الدموي . ونقص شحوم الدم يساعد بدوره على التقليل من حصيات المرارة والطرق الصفراوية . و يساعد الصوم الجهاز الكلوي على الراحة من أجل التخلص من الفضلات. وأما عن الفوائد التربوية والنفسية، فيفيد رمضان في كبح جماح النفس وتربيتها بترك بعض العادات السيئة وخاصة عندما يضطر المدخن لترك التدخين ولو مؤقتا على أمل تركه نهائيا ، وكذلك عادة شرب القهوة والشاي بكثرة . وفوائد رمضان النفسية كثيرة ، فالصائم يشعر بالطمأنينة والراحة النفسية والفكرية ويحاول الابتعاد عما يعكر صفو الصيام من محرمات ومنغصات ويحافظ على ضوابط السلوك الجيدة مما ينعكس إيجابا على المجتمع عموما. قال-صلى الله عليه وسلم ( الصيام جُنّة، فإذا صام أحدكم فلا يرفث ولا يجهل وان امرؤٌ قاتله أو شاتمه فليقل إني صائم إني صائم) متفق عليه ، وقد أثبتت دراسات عديدة انخفاض نسبة الجريمة بوضوح في البلاد الإسلامية خلال شهر رمضان.و هذه الفوائد البدنية و النفسية للصيام لا يمكن أن تتحقق إلا بأن يكون الصيام أولا و أخيرا لله ثم بعدم الإفراط في الطعام و الشراب، فالتخفف من الطعام و الشراب يؤدى إلى إعلاء القدرة البدنية و الروحية على طاعة الله ليل نهار، فينال الصائم بصومه الخير في الآخرة بمغفرة الله و الدخول في رضوانه، و في الدنيا قد يعجل الله له الأجر بالصحة و العافية في نفسه و بدنه.و العجب كل العجب أن نجد المسلم إذا أقبل رمضان و بدأ الصيام انقطع للطعام و الشراب من آذان المغرب إلى آذان فجر اليوم التالي، فنجده في رمضان في حالة كسل مستمر لا يقدر على أداء صلاة التراويح و لا على قيام الليل، فهو أكول في الليل نوام بالنهار، ثم تجده يتحدث عن الفوائد الصحية للصيام.و من المؤكد أن مثل هذا المسلم الأكول يخدع نفسه قبل أن يخدع غيره، مما جعل كتاب الغرب الكافر يتحدثون عن كيفية التعامل مع الطعام و الشراب في رمضان كما لو كان الإسلام قد غفل عن ذلك، ففي دراسة نشرتها البى بى سى العربية تحت عنوان (كتاب فرنسي يقدم نظام حمية للمسلمين خلال شهر رمضان)، حيث يقدم هذا الكتاب (تاريخ التغذية: خاص برمضان) نصيحة للمسلمين بشأن كيفية الإبقاء على أنفسهم نحيفين ورشيقين خلال شهر رمضان، وذلك من خلال إتباع نظام حمية بخصوص طريقة الإفطار والسحور، فيقول مؤلف الكتاب و هو طبيب (إن المسلمين قد حولوا وجبة الإفطار في رمضان إلى طقس ليلي من الانغماس في الأغذية السكرية يمتد بين غروب الشمس وشروقها، و قد يؤدى هذا الأمر بالبعض إلى إنهاء شهر رمضان بعد أن يكونوا قد اكتسبوا وزنا أكثر مما كانوا عليه قبل بدء صيامهم. أما بالنسبة للبعض، فترى عليهم علامات السكري وزيادة الشحوم) و لذا ينصح الكاتب المسلمين بقوله (إن لم يكن الناس حذرين، فيمكن لصيام رمضان أن يسبب لهم شتى أنواع المشاكل المتعلقة بالصحة والوزن لأنك إذا التهمت أطعمة عالية القيمة الغذائية قبيل أن تأوي إلى الفراش، فستنتهي إلى السمنة بالتأكيد، لأنك عندما ترتاح فإن جسدك يخزن الأغذية. وينصح الكاتب بتناول وجبة سحور كبيرة قبيل الصيام، تتضمن اللحوم والنشويات والجبنة، أما الإفطار، فيجب أن يتضمن وجبة خفيفة من السكريات، و طبق خفيف من الأسماك).و أستحلفكم بالله أيها المسلمون هل رأيتم في هذا الكتاب الفرنسي شيئا لا تجدونه في الهدى الاسلامى الذي أضحى غريبا في بلاد المسلمين فصرنا نستورده من غير أهل الإسلام بعد أن صدرناه إليهم ثم أعرضنا عنه و أصبحنا نتغنى بذكراه زاعمين أن في الصيام إعجاز علمي فهو شفاء من كل داء، فصرنا نرى بعض الكتاب المسلمين يتحدثون عن الشفاء بالصيام حتى و لو لم يلتزم المسلم بقواعد الإسلام في الطعام و الشراب.ألم يضع لنا المولى تبارك و تعالى القاعدة الصحية العريضة (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) 31 الأعراف، فالغذاء في اعتبار القرآن وسيلة لا غاية، فهو وسيلة ضرورية لابد منها لحياة الإنسان، دعا إليها القرآن بقول الله (يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالاً طيباً ) 186 البقرة، و جعل الله في غريزة الإنسان ميلاً للطعام، وقضت حكمته أن يرافق هذا الميل لذة لتمتع الإنسان بطعامه و لتنبيه العصارات الهاضمة و أفعال الهضم، فليست اللذة و التمتع في الطعام و الشرب هي الغاية فالدين يعيشون من أجل التلذذ بالطعام والشراب شبههم الله سبحانه بالأنعام ( و الذين كفروا يتمتعون و يأكلون كما تأكل الأنعام و النار مثوى لهم ) 12 محمد.أليس نبينا محمد صلى الله عليه و سلم هو الذي سبق العلم الحديث حين قال (ما ملأ آدمي وعاءً شراً من بطنه ، بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه ، فإن كان لا بدَّ فاعلاً ، فثلث لطعامه ، و ثلث لشرابه و ثلث لنفسه ) رواه النسائي و ابن ماجة و صححه الألباني، و حين قال (المؤمن يأكل في معي واحد،والكافر يأكل في سبعة أمعاء) متفق عليه. ثم جاء العلم الحديث بعد ذلك ليثبت العلاقة الوطيدة بين الإفراط في الطعام و حدوث الكثير من الأمراض كالتخمة و عسر الهضم و قرح الجهاز الهضمي و السمنة و أمراض القلب كتصلب الشرايين و غيرها الكثير من الأمراض التي لا يسعها مثل هذا المقال الوجيز، و التي يمكن للمسلم و غير المسلم تجنبها بسهولة من خلال تطبيق نظم التغذية الإسلامية المنصوص عليها في القرآن و السنة المطهرة.و إلى هؤلاء المسلمين الذين نسوا نظم التغذية الإسلامية المنصوص عليها في القرآن و السنة المطهرة ثم أسرفوا في الطعام و الشراب في شهر رمضان، وقد يأكلون في الصيام أضعاف ما يأكلونه في الحياة العادية، زاعمين أن في الصيام دواء لكل داء، لهؤلاء نقول إن سنن الإسلام لا تحابى أحداً، فالإسلام هو دين الوسطية فلا إفراط و لا تفريط، و هذا ما نلحظه في قواعد صيام رمضان مع القواعد العامة للتغذية الإسلامية على مدار العام.فالغاية أيها المسلم من الصيام أن تسير في طريق الكمال الجسدي والروحي الذي يجب أن تصوم فيه الجوارح كلها عن معصية الله، لنحصل التقوى و تتخلص من أدران الحياة و من ترف الدنيا فتتجه الرواح إلى الله خالق السموات والأرض داعية مبتهلة بخشوع وإيمان، لعل الله تعالى أن يغفر لنا ذنوبنا و أن يرحمنا و يعتق رقابنا من عذاب النار.
المصدر: منتديات كنوز
نشرت فى 16 يوليو 2012
بواسطة alsanmeen
ابحث
تسجيل الدخول
عدد زيارات الموقع
1,305,647
ساحة النقاش