مؤامرة إغتيال مطرب الخليفة العباسي
الموصلي هدد المغني الشهير
زرياب بالقتل فهرب إلي الأندلس!

ولد زرياب بالعراق عام 173 هـ (789م) وكان من موالي الخليفة المهدي، وهو من فارس وأسمه الحقيقي علي بن نافع وكنيته أبو الحسن ولكنه سمي زرياب لسواد بشرته، وفصاحة لسانه وقد شبه بطائر اسود غرد.
ولكن كيف هاجر إلي الاندلس؟
وما الدوافع التي دفعته إلي هذه الهجرة؟ رغم أن مستقبله وصعود نجمه كان قاب قوسين أو أدني عندما عرفه الرشيد، وأحبه، وقربه إليه؟

***
الذين درسوا قصته وسيرة حياته قالوا أن الغيرة منه ومن صوته العذب الجميل هو سبب فراره من بغداد إلي الأندلس!
كيف؟
لقد قدمه أستاذه اسحاق الموصلي إلي الرشيد علي أساس أنه صوت جديد واعد، ولم يكن الموصلي يدرك أن تلميذه يملك كل هذه الامكانيات المؤهلة: صوت يأخذ بمجامع القلوب، دراسة عميقة للموسيقي.. حتي عوده الذي يعزف عليه أضاف إليه وترا جديدا، وعلي دراية بالعلم والشعر.
لم يكن الموصلي يدرك أن لتلميذه كل هذه المواهب، فما كاد يقدمه للخليفة، ويسمع صوته حتي فتنه بهذا الصوت الغرد الجميل، وفتن أكثر بذكائه .
سأله الرشيد: ما مدي معرفتك بالغناء؟
قال زرياب:
أحسن منه ما يحسنه الناس، وأكثر ما أحسنه لا يحسنونه مما لا يحسن إلا عندك،ولا يدخر إلا لك، فإن أذنت غنيتك مالم تسمعه أذن قبلك!
وأمره الرشيد أن يغني، فاستأذن بأن أحضر عوده، وعزف علي أوتاره وغني
ياأيها الملك الميمون طائره
هارون راح إليك الناس وأبتكروا
وإنبهر الرشيد بما سمع..
وقال لاستاذه إسحاق الموصلي الذي قدم إليه:
والله لولا أني أعلم من صدقك لي علي كتمانه إياك لما عنده، وتصديقه لك من أنك لم تسمعه من قبل لأنزلت بك العقوبة، لتركك إعلامي بشأنه، فخذه إليك، وإعتمد بشأنه حتي أفرغ له، فإن لي فيه نظرا'
وهنا شعر إسحاق الموصلي بالغيرة الشديدة، والحد من زرياب. فقال له عندما جلس إليه:
إن الحسد داء أقدم الادواء وأدوؤها، والدنيا فتانة، والشركة في الصناعة عداوة، ولا حيلة في حسمها، وقد مكرت بي، فيما أنطويت عليه من إجادتك وعلو طبقتك، وقصدت منفعتك، فإذا أنا قد أتيت نفسي من مأمنها بإدنائك، وعن قليل تسقط منزلتي وترتقي أنت فوقي. وهذا مالا أصاحبك عليه ولو أنك ولدي، ولولا رعيي لذمة تربيتك لما قدمت شيئا علي أن أذهب نفسك، يكون في ذلك ماكان.. فتخير في إثنتين لابد لك منهما: إما أن تذهب عني في الارض العريضة، لا أسمع لك خبرا، بعد أن تعطيني علي ذلك الإيمان الموثقة، وأنهض إلي ذلك بما أردت من مال وغيره، وإما أن تقيم علي كرهي ورغمي مستهدفا إلي. فخذ الآن حذرك مني، فلست والله أبقي عليك، ولا أدع إغتيالك، باذلا في ذلك بدني ومالي، فاقض قضاءك.

***
لقد توعده اسحاق الموصلي بالاغتيال إن أصر علي البقاء في بغداد، لأنه سيسلبه مجده، ويأخذ مكانه عند الرشيد، وحذره من مغبة ذلك، وأن عليه أن يرحل إلي أي مكان حتي لا يغتاله.
وكان زرياب يعلم أن اسحاق الموصلي له نفوذ كبير في بلاط هارون الرشيد أو أن له كثير من المعارف من أصحاب السلطة والنفوذ ،وإنه إن ظل في بغداد فسوف يحرض عليه من يقتله. فآثر أن يهرب من بغداد، وبلاد الله واسعة، واتجه نحو المغرب.
وكان لابد أن يسأل عنه هارون الرشيد وسأل الموصلي عن هذا الشاب الواعد، فأخبره الموصلي بأنه إنسان متقلب المزاج، وتعثر به نوبات جنون، فيخيل أن الجن تلهمه ألحانه، وأنه حين استبطأ عطايا أمير المؤمنين، ترك بغداد إلي حيث لا يدري!
وأقنع الموصلي الرشيد بذلك، فما كان من الرشيد المشغول بقضايا الدولة، ومشاكل الحكم إلا أن اقتنع بكلام الموصلي وقال:
علي ماكان فقد فاتنا منه سرور كثير.
وعاش زرياب فترة في المغرب، ثم انتقل إلي الاندلس ، وقابل أميرها الذي رحب به، وفتح له الطريق لأن يحقق ذاته في الطرب والغناء، بعد أن سمع صوته وأعجب به وقربه إليه وكان أمير الأندلس هذا الذي أكرم وفادته، وأفاد عليه كثير من الأموال هو عبدالرحمن الأوسط، لقد أحب فيه أنه ليس مجرد مغني جميل الصوت والاداء، ولكنه أيضا كان عالما وشاعرا، وشجعه علي أن يقيم معهدا للموسيقي، وقد أدخل تعديلا علي العود فأضاف إليه وترا خامسا، وأصبحت موسيقاه هي الموسيقي الراقية الذي ينشدها أهل الأندلس.
ويقول الرواه انه كان أنيقا.. يعتني بملابسه، وعلم أهل الأندلس كيف يلبسون الصوف في الشتاء، والقطن في الصيف، وقدم العديد من الابتكارات في تصفيف شعر الرجال والسيدات، وعلمهم الأكل علي الموائد، واستعمال الملاعق والسكاكين بدلا من الأكل بأصابع اليد.

***
يقول الدكتور حسن مؤنس عن أثره في الحضارة الأندلسية:
وعلي الجملة كان زرياب شخصية حضارية ممتازة فقد أدخل تغييرا جوهريا علي المجتمع الاندلسي كله.
وساعد في نقله من البداوة إلي الحضارة، ومن الفوضي إلي التنظيم المتحضر، وكان إلي جانب ذلك شخصية محترمة ذا سمة ووقار،ولم تؤثر عنه صفوة خلق أو سوء تصرف، بل كان يتحاشي الشراب ولا يتعاطاه.
وفي تاريخ الموسيقي العربية يحتل ذلك (الطائر الاسود) مكانا جليلا، فقد كان من القلائل الذين أخلصوا للفن والموسيقي، وجددوا فيه وحافظوا علي السمة المحترمة للفنان، ولم يسمحوا لأنفسهم أبدا بأن يهبطوا إلي مستوي عامة المسلمين والندماء، فكان قليل التردد علي القصر، لا يحضر إلا لحفل موسيقي، وكان لا يذهب بموسيقاه إلي بيوت الاغنياء، وإنما يذهب إلي داره من يريد أن يستمتع بفنه، وقد جمع مالا عريضا من تدريس الموسيقي وتخريج الشبان والشابات، وكان الكثيرون ممن تخرجوا علي يديه أعلاما للفن لهم في المجتمع مكانة كبيرة ويقول الدكتورحسين مؤنس أيضا:
وقد توفي علي بن نافع (زرياب) في ربيع الاول 238 ه / أغسطس 852م قبل وفاة عبدالرحمن الأوسط بأسابيع قليلة ولم يكن علي بن نافع (زرياب) الشخصية الطريفة التي ازدان بها عصر عبدالرحمن الاوسط، فقد ظهرت في أيامه جماعة من أجمل الشخصيات في تاريخ الاسلام العام، ويعد ظهور هذه الشخصيات الفريدة ثمرة من ثمار غراس بني أمية الذين بلغ حكمهم نحو قرن من الزمان عندما توفي عبدالرحمن الاوسط'.


المصدر: معالم تاريخ المغرب والاندلس صور تاريخية د. حسين مؤنس علي أدهم
alrahma1

http://kenanaonline.com/alrahma1 http://kenanaonline.com/mkhaled

  • Currently 45/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
15 تصويتات / 92 مشاهدة
نشرت فى 23 سبتمبر 2010 بواسطة alrahma1

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

31,720