محاولة انتحار شاعر عظيم
هل حاول أبوالعلاء المعري الإنتحار هربا من أحزانه ومعاناته؟!
كان أبوالعلاء المعري من أعظم شعراء العربية، ولم يكن مجرد شاعر كبير فرض اسمه علي الأيام، ولكنه كان صاحب رؤية.. صاحب فلسفة.. وأن الحياة صعبة شاقة، ومن هنا فقد فرض علي نفسه العزلة، وفرض علي نفسه ألا يتزوج حتي لاينجب ولدا أو بنتا تشقي بالحياة.. وكان يكرر.
هذا جناه أبي علي وماجنيت علي أحد!
والذين درسوا شعره وتعمقوه عرفوا فيه شاعرا كبيرا من النادر أن تجود الأيام بمثله.. شاعرية عميقة عريضة تنبؤ عن انسان له ثقافته العريضة وله تجاربه العميقة، وقد صاغ كل ذلك شعرا جميلا يؤسر العقل، ويستولي علي القلوب.
ولكن هل صحيح أنه حاول الانتحار والتخلص من الحياة؟
وهل صحيح أنه أهين عندما ذهب إلي بغداد وعاش بها عامين؟
وهل صحيح أنه عندما مات والده ثم والدته، تركا بصمات من الحزن لازمته طوال حياته، بجانب فقده البصر وهو لم يتجاوز الثلاثة أو الأربعة من العمر؟
الاجابة علي هذه الاسئلة ترسم صورة واضحة المعالم بينة القسمات عن هذا الشاعر العظيم الذي ملأ الدنيا وشغل الناس.
* * *
وأبوالعلاء المعري (363ه 449 ه): 973م 1058م ولد في نهايات شهر ربيع الأول سنة 363 ه في معرَّه النقمان، واسمه بالكامل أبوالعلاء أحمد ابن عبدالله بن سليمان التنوخي المعري.. وقد أطلق عليه رهين المحبسين، وكان هو نفسه يعبر عن سجونه الثلاثة الذي يعيش فيها بقوله:
أراني في الثلاثة من سجوني
فلا تسأل عن النبأ النبيذ
لفقد ناظري، ولزوم بيتي
وكون النفس في الجسد الخبيث
وقد عاش الرجل في الفترة التي بدأت فيها ضعف الخلافة العباسية، ومع ذلك فإن الثقافة كانت مزدهرة، وكان هو سليل أسرة عريقة، وبدأ يتألق كشاعر، وبدأ يتألق كحكيم، فبين سطور شعره تكمن حكمته التي عرفها من تجارب السنين، ولكنه فجع في موت أبيه، الذي كان يعده أستاذا وأخا وصديقا بجانب كونه والده، لقد فقد والده عام 395 ه، وشعر باليتم رغم أنه بلغ مبلغ الرجال، ولكنه كان يجد فيه السند، عندما تشتد كوارث الأيام، حتي أنه رثاه في قصيدته النوفية الجميلة، والذي قال فيها:
فياقبر.. واه من ترابك لينٌا
عليه وآه من جنادلك الخشن
وقد آثر الرجل بعد وفاة أبيه أن يرحل إلي بغداد، ويستأذن من أمه في الرحيل.. ويشعر بشيء غامض في أعماقه بأنه قد لايري أمه بعد ذلك، وهي الحصن الباقي له والذي يتحصن فيه من غدر الأيام، فيبكي بكاء مرا وهو يودعها وهو في طريقه إلي بغداد!
* * *
ويعيش في بغداد عامين كاملين، ويشعر الناس فيها بأن معهم شاعر عظيم، ويقبل عليه هناك الشعراء والأدباء والعلماء، ولكن حدث هناك ما كدر عليه صفو حياته، فقد كان صديقا للشريفين الراضي والمرتضي، وقد رحبابه عند قدومه إلي بغداد، ولكن الشريف المرتضي كان لايحب شاعر العربية الأكبر 'المتنبي'.. فأخذ المرتضي يهاجم المتنبي، ويظهر عيوبه، ولكن أبلعلاء اعترض علي كلامه هذا، وقال بكل شجاعة:
لو لم يكن للمتنبي من الشعر إلا قصيدته
'لك يامنازل في القلوب منازل'
لكفاه فضلا.
وهنا غضب المرتضي وثار، وأمر بطرد المعري من المجلس، وأحس أبوالعلاء بالمهانة.. وعندما سئل المرتضي عما فعله بأبي العلاء قال لهم المرتضي:
أتدرون أي شيء أراد الأعمي!
بذكر هذه القصيدة؟
فإن للمتنبي الكثير من القصائد ولكن المعري أراد قوله:
واذا أتتك مذمتي من ناقص فهي الشهادة لي بأني كامل
وشعر أبوالعلاء بأنه أهين في بغداد، وقرر العودة عام 400 ه إلي عرة النعمان في سورية..
وفي طريق العودة علم بموت أمه، فكانت صدمة عنيفة له، فهي الملاذ الأخير، وقال:
مضت وقد اكتهلت فخلت أني
رضيع ما بلغت مدي الفطام
سألت متي اللقاء.. تقبل حتي
يقوم الهامدون من الرجام
وقرر الاعتزال في داره، لايخرج منها إلا للصلاة أو علي حد تعبير الدكتور شوقي ضيف:
.. 'أخذ أبوالعلاء بعد عودته من بغداد يعيش معيشة فكرية خالصة، يفكر في محنته ببصره، ومحنته هو والناس بفساد السياسة والحكم في عصره، وفساد الأخلاق وشيوع البؤس.. علي نحو ما يئس من خلوصه من محنته في بصره ، يئس من خلوصه هو والناس من الشرور التي تصب علي الرؤوس والتي تملأ النفوس شقاء وعناء، وكان مرهف الحس رقيق الشعور ذكي القلب والفؤاد، فتجسدت في نفسه تلك الشرور تجسيدا هائلا، وأخذ يصورها كما رآها في شخصه وفي شخوص الناس تصويرا يجلله السواد في أكثر جوانبه، وكان قد استوي له عقل فلسفي تمثل كل ما أنتجه الفكر الانساني من فلسفات اليونان، ومن فلسفات الشرق الهندية وغير الهندية، وأخذ يكون له فلسفة تجمع في أصولها بين تلك الفلسفات وفلسفة الفكر الاسلامي وخاصة عند المتكلمين، فلسفة هي مزيج من تلك المذاهب الكثيرة التي تمثلها تمثلا رائعا، والتي التقت في فكرة، لتتحول إلي صورة فلسفية جديدة، أو قل إلي صورة فلسفية علانية لها أصولها ومقوماتها وطوابعها المميزة'.
* * *
ويبدو أن أباالعلاء، وقد ضاق ذرعا بالحياة التي يحياها، فلا السياسة في عصره قد أعجبته، ولا أعجبته بجعد الناس عن الفضيلة والاخلاق، فآثر الانسحاب من الحياة، وجاءت في ذهنه فكرة الانتحار، غير أنه خشي عذاب الله، فآثر الابتعاد عن هذه الفكرة.
يقول الدكتور عبدالقادر محمود في كتابة (رحلة إلي الدار الآخرة).
لاشك عندي أن أبا العلاء العملاق، قد أعلن وقرر انتحار ذاته في هروبه المطلق من الحياة، وسلوكه الزاهد لسائر متع الحياة، لكن يظهر أنه ساورته فكرة التخلص من الحياة بالانتحار السريع الحاسم، فهو حين يعلن في وضوح:
مهجتي ضد يحاربني
أنا مني كيف احترس؟
يعود بعد انفجار ثورته وغضبه علي نفسه، ليفكر لحظات بائسا أحيانا، في التخلص منها بالانتحار السريع، لكنه يعود بعد أناة، أو حب كامن للحياة فيقول فيما يقول:
'قد كدت أرحل برهط العدم من غير ما أسف ولاندم.. ولكنها أرهب قدومي علي الجبار'.
ما الحل إذن؟
الحل هو التفكير فيما فكر فيه وعاشه رفيقه في فلسفته عمر الخيام فكرا ووجدانا وسلوكا.
الحل هو أن يلجأ إلي الخمر لتنسيه أحيانا ثورته أو لتطفيء كثيرا من تمرده.
ان شيخنا العقاد يري أنه لايستبعد أن يكون المعري قد جرب أن يتذوق بعض الخمر في عزلته، وقد يكون شربها أو شرب قليلا منها، في بعض الأديرة التي اعترف بأنه كان يذهب إليها أحيانا في بعض دراساته مع العلماء من الرهبان، بدليل قوله (المعري).
فلا تشربنها ما حييت وان تمل
إلي الغي فاشربها بغير نديم
ويمكن أن نري رغبة كامنة في أعماق نفس أبي العلاء، في ظهور من يستطيع (فقط) من الأنبياء أن يفتي بتحليلها، انها أمنية ولاشك حالت في نفس المعري الذي يقول في حالة شك، وفي حالة إصرار معا علي عقله:
تمنيت أن الخمر حلت لنشوة
تجهلني.. كيف اطمأنت بي الحال!
أيأتي نبي يجعل الخمر طلقة
فتحمل شيئا من همومي وأحزاني
لكنه يعود سريعا، فيعلن حرصه وتمسكه بوعي عقله الذي ليس هناك أسمي ولا أفضل منه، فيقول فيما يقول في نفس القصيدة:
لا أشرب الراحة أشري طيب نشوتها
بالعقل أفضل أنصاري وأعواني
وإذن.. فليضرب أبوالعلاء بعقله الواعي كل شيء لايقبله ولايعقله في نفسه أو فيما حوله أو فيمن حوله من قريب أو بعيد، ورغم أنه قد عزل نفسه تماما، فإنه بعقله لم ينعزل عن الحياة والأحياء، ونظر إلي عصره وحكام عصره وعلماء عصره وساسة عصره، فلم ير إلا الضعف والجهل والظلم والفساد والضياع.
ان العراق وان الشام من زمن
صفران.. ما بهما للملك سلطان
ساس الأنام شياطين مسلطة
في كل مصر من الوالين شيطان.
* * *
هذه صورة عن شاعر عظيم.. عاش حياته زاهدا متقشفا.. لا يأكل اللحم ولايلبس الا الخشن من الثياب، ورغم محنه وأزماته التي مر بها، كان يرجو الرحمة من الله، وأن ما عند الله خير وأبقي.. وأن عفو الله بلا حدود.. وأن نعمه وآلاؤه بلا حدود أيضا.
ومات الرجل الذي حاول أن يهرب من الدنيا كلها في يوم ما.. وترك تراثا عريضا ينفع الناس في كل العصور.. إنه الشاعر الفيلسوف أبوالعلاء المعري.
المصدر: رحلة إلي الدار الآخرة د. عبدالقادر محمود
فصول من الشعر ونقده د. شوقي ضيف
نشرت فى 23 سبتمبر 2010
بواسطة alrahma1
عدد زيارات الموقع
31,714
ساحة النقاش