انتحار روميو العرب
قتل الحيوان المفترس محبوبته فقطع المحب رأسه ثم انتحر بنفس السيف!


لو قرأنا أو سمعنا هذه الأيام أن هناك من قتل نفسه لانه وقع في الحب، أو لأن حبيبته ماتت، لارتسمت في أذهاننا العديد من علامات الاستفهام الحائرة.. وربما تداعي إلي أذهاننا أن هذا الرجل قد فقد عقله.. وأن مكانه الطبيعي هو أحدي المستشفيات العقلية، ولكن هذا الشيء الذي نري فيه غرابة قد لاتصدق، تحدثت عنه وروته كتب التراث!.
نحن نعرف أنه في صدر الاسلام وخاصة في العصر الأموي ساد ما يعرف بالحب العذري.. وهو الحب المنزه عن الهوي.. الحب النقي الطاهر الذي يعيش به وله الانسان دون أن يلتمس من ورائه شهوة أو رغبة حسية..
ان الانسان الذي يشعر بالحب عليه أن يعيش علي هذا الاحساس الجميل حتي لو فقد عقله!!
فقد كان أملهم من هذا الحب أن يعيشوا أجواء الحب نفسه، وبما فيه من متعة روحية لايحسها الا من يتذوق لوعة هذا الحب..!
فمادام قد عرف الحب، فعليه ألا يدنس شرف من يحب.
ومن هنا فقد كان العرب يفرقون بين الحب الحقيقي والحب الذين كانوا يطلقون عليه الحب الدفيء، كما كان فلاسفة الاغريق القدامي يميزون بين ثلاثة أنواع من الحب:

الحب الجسدي

الحب الروحي

الحب المثالي.

***

ويري الدكتور شوقي ضيف في كتابه (الحب العذري عند العرب).. أن للحب عندهم منازل ومراتب متعددة، وأول مراتبه الهوي وهو الميل إلي المحبوب، ويليه الشوق وهو نزوع المحب إلي لقائه، ثم الحنين وهو شوق ممزوج برقة، ويليه الحب وهو أول الألفة، ثم الشغف وهو التمني الدائم لرؤية المحبوب، ويليه الغرام وهو التعلق بالمحبوب تعلقا لايستطيع المحب الخلاص منه، ثم العشق وهو إفراط في الحب، ويغلب أن يلتقي فيه المحب بالمحبوب، ثم التتيم وهو استبعاد المحبوب للمحب، يقال يتمتني حبا، ويليه الهيام وهو شدة الحب حتي يكاد يسلب المحب عقله، ثم الجنون وهو استلاب الحب لعقل المحب، وتتكرر مع مراتب الحب كلمات مثل الولع وهو شدة التعلق بالمحبوب، والشجن وهو الهم والكرب، واللوعة وهي الألم، تباريح الحب وهي شدائده، والجوي وهو كتمانه والضيق به، والكمد وهو الحزن الشديد، والوجد وهو الصبابة وشدة الحب، والوله وهو التحير من شدة الوجد، والكلف وهو الاستغراق في الحب.. إلي غير ذلك'.

***

هذه المعاني دارت في ذهني وأنا أقرأ قصة هذا الاعرابي الذي توله في الحب، وكانت الحبيبة ابنة عمه، ولكن عمه رفض أن يزوجها له، رغم علمه بأنها تحبه كما يحبها..!
وهذه القصة تناولها أكثر من كتاب من كتب التراث، بصيغ مختلفة، ولكن المضمون واحد.. هو أن هذا الاعرابي قد هام حبا بابنة عمه، ورفض عمه أن يحقق له أمله في الزواج بها، فخرج عن أمواله، وكل ما يملك، ليعيش قريبا منها حتي يتمكن من رؤيتها بعد أن تزوجت بآخر.. وأن يكون هذا اللقاء بهدف الاستمتاع باللقاء ليس أكثر ولا أقل.. وكانت هي الاخري حريصة علي هذا اللقاء، بعيدا عن أعين الزوج والوالد..!!
ولكن ما نهاية ذلك؟
وما الهدف منه؟
ان الرواة لايحدثوننا عن شيء من ذلك، فلا أمل في زواج فقد تزوجت ورضخت لرغبة والدها! ولكن الهدف الأول والأخير هو ان كان الأب قد استطاع ان يفرق بينها وبين من تهوي، فعلي الأقل لابد أن يستمتعا باللحظات الروحية التي يستشعرها المحبون.

***

ويحدثنا الراوي لهذه الحكاية فيقول ما ملخصه.. أنه خرج في نشدان ضالة له، فاتجه إلي خيمة أحد الأعراب، ونزل ضيفا عليه، حيث أكرمه هذا الاعرابي، وقدم له ما يجب أن يقدمه أي اعرابي طبع علي الكرم من اكرام ضيفه.. من طعام وايواء.
ثم يحكي هذا الرائي قائلا:
فبينما أنا بين النائم واليقظان، اذ أنا بفتاة قد أقبلت لم أر مثلها جمالا وحسنا، فجلست، وجعلت تحدث الاعرابي ويحدثها، ليس غير ذلك، حتي طلع الفجر، ثم انصرفت.
وقلت:
والله لا ابرح موضعي هذا حتي أعرف خبر الجارية والاعرابي.
قال.. كما يروي ذلك الدكتور عبدالحميد ابراهيم في كتابة (قصص العشاق النثرية في العصر الأموي).
: فمضيت في طلب ضالتي يوما، ثم أتيته عند الليل فأتي بقربي، فبينما أنا بين النائم واليقظان، وقد أبطأت الجارية عن وقتها، قلق الاعرابي فكان يذهب ويجييء وهو يقول:
ما بال ميه لاتأتي كعادتها
أعاجها طرب أم صادها شغل
لكن قلبي عنكم ليس يشغله
حتي الممات ومالي غيركم أمل
لو تعلمين الذي بي من فراقكم
لما اعتذرت ولا طابت لك العلل
إلي آخر ما قال من أبيات
ويتابع الراوي روايته:
ثم أتاني فانبهني وقال:
إن خلتني التي رأيت بالأمس قد أبطأت علي، وبيني وبينها غيضه.
وقال:
ولست آمن عليها، فانظر ما ها هنا، حتي أعلم علمها.. ثم مضي، فأبطأ قليلا، ثم جاء بها يحملها، واذا السبع قد أصابها، فوضعها بين يدي، ثم أخذ سيفه ومضي، فلم أشعر به إلا وقد جاء بالأسد يجره مقتولا، ثم أنشأ يقول:
ألا أيها الليث المضر بنفسه
هبلت لقد جرت يداك لك الشرا
أخلفتني فردا وحيدا مولها
وصيرت آفاق البلاد لها قبرا
أأصبح دهرا خانني بفراقها
معاذ إلهي أن أكون لها برا

***

لقد عرفنا من سياق القصة كما رواها الراوي أنها حين تباطأت عليه، ولم يطق صبرا علي ذلك، خرج ليجد أن أحد الأسود قد فتك بها، فما كان منه أن حملها إلي خيمته، وعاد يحمل سيفه ويقتل الأسد..!!
وإنه لم يكتف بقتله كما تقول الرواية، ولكنه يجره جرا حتي خيمته.
وأمام الغموض الذي يكتنف الراوي، كان لابد أن يشرح له هذه القصة بما يلخصه أنه أحب هذه الفتاة التي صرعها الأسد، حبا عنيفا، ولكن هذا الحب لم يشفع له عند عمه، الذي زوجها إنسانا آخر، وأنه بعد أن خرج من ماله كله ليعيش بالقرب منها في هذه الخيمة، حتي يمكنه أن يراها وأن يقابلها.. لا لشيء.. ولا لغرض إلا أن يشعر بما يشعر به المحبون عندما يلتقون بمن تعلق بهن قلوبهم..
ومادامت قد فارقت الحياة.. فلا معني للعيش في هذه الحياة!
فلا معني.. ولا قيمة للحياة بعد أن فقد من كان يعيش لها.
ثم التفت صاحب هذه القصة، أو هذا الاعرابي الذي فجع بمقتل حبيبته، إلي الراوي، وأوصاه وصية، بأن يدفنه مع حبيبته في ثوب أحضره له، وأن يدفنهما في قبر واحد، اذا هو مات!!
ثم نظر الاعرابي إلي هذا الراوي لتلك القصة يوصية وصيته الأخيرة، وهو أن يكتب علي القبر هذا الشعر.
كنا علي ظهرها والدهر في مهل
والعيش يجمعنا والدار والوطن
ففرق الدهر بالتصريف ألفتنا
فاليوم يجمعنا في بطنها الكفن

***

ولابد لهذه الحكاية المثيرة من نهاية مثيرة، كما عرفنا ذلك في العديد من القصص التي تروي قصص الحب العربية.. فما هي هذه النهاية.. يقول لنا الرواي: '.. ثم اتكأ علي سيفه فخرج من ظهره، فسقط مغشيا عليه، فلففتهما في الثوب، وحفرت لهما، فدفنتهما في قبر واحد، وكتبت عليه كما أمرني'.
ويعلق الدكتور عبدالحميد ابراهيم علي هذه القصة.. بأنها من أصلح الأشياء لأن تتحول إلي (أوبرا موسيقية) ففيها هذا الجو الساذج، وتلك المواقف الرائعة.. وتصور معي تلك المواقف الخلابة وقد أضيفت اليها الموسيقي التصويرية المعبرة.. موقف الاعرابي وهو يحمل معشوقته علي كتفه، أو موقفه وهو يجرجر الاسد، وينشد الأشعار، أو موقفه وقد اتكأ علي سيفه فخرج من ظهره، أو موقف الرجل الذي لفهما في ثوب واحد، ودفنهما في قبر واحد، وكتب عليه أبياتا من الشعر.



المصدر: قصص العشاق النثرية في العصر الأموي د. عبدالحميد ابراهيم الحب العذري عند العرب د. شوقي ضيف
alrahma1

http://kenanaonline.com/alrahma1 http://kenanaonline.com/mkhaled

  • Currently 30/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
10 تصويتات / 83 مشاهدة
نشرت فى 23 سبتمبر 2010 بواسطة alrahma1

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

31,719