المصباح....كتاب الأدب

للمحتوى الثقافي والأدبي العربي


أسرار انتحار خليل حاوي 
١٣ حزيران (يونيو) ٢٠٠٧ 

زال انتحار الشاعر خليل حاوي غداة الاجتياح الاسرائيلي لبيروت عام 1982 سراً يتوّج حياته وشعره في آن واحد. قيل الكثير عن هذا الانتحار وأعاده بعضهم الى الهزيمة العربية الجديدة بُعيد الاجتياح، لكنّه لا يزال عصياً على التفسير وغامضاً أو ملغزاً. وما يزيد من غموضه أن الشاعر حاول الانتحار مرتين أو ثلاثاً في سنواته الأخيرة وفشل. وكان في تلك السنوات وحيداً جداً، خائباً خيبات عدة، شخصية وقومية، متوتراً ومتألماً لأسباب شبه مجهولة. وكان بدأ يلمح طيف الشيخوخة يلوح في الأفق المغلق، مهدداً إياه، هو الشاعر النبيل والمترفّع.
قد يُظلم خليل حاوي إن فُسّر انتحاره تفسيراً سياسياً وقومياً فقط. الخيبة السياسية سبب ضئيل من أسباب أخرى تراكمت حتى أغلقت كلّ المنافذ في وجهه. وجاء الاجتياح ذريعة أخيرة لينهي شاعر «نهر الرماد» حياته. خرج الى الشرفة وأطلق النار على نفسه. طبعاً لم يكن خليل حاوي قادراً على أن يبصر جيش العدو «يختال» في شوارع بيروت. كانت تلك اللحظة بمثابة الشرارة التي ألهبت النار في تلك الروح المهيضة.
كتبت القاصة العراقية ديزي الأمير التي كانت حبيبة خليل حاوي خلال سنوات، إنه كان يعاني مرض «الصرع». بعض الأهل والأقارب كانوا يقولون إن ورماً في الرأس كان يوقعه في حالات من التوتر والألم، وكان من الصعب إزالته بجراحة. مثل هذه الأقاويل لم تكن إشاعات مع أن الشاعر العزيز النفس لم يكن يبوح بها لأحد مؤثراً مواجهة المرض وحيداً ومكابراً. لكنّ قصائده القصيرة التي كتبها قبيل سنة أو سنتين من رحيله المأسويّ تشهد على ما كان يلمّ به من أزمات نفسية وقلق وأرق وكآبة وخيبة… وأولى تلك الأزمات تمثلت في عجزه عن الكتابة وكأنه كان يشعر في طويته ان الشعر خانه واللغة خانته: «فاتني الإفصاح/ أدركت محاله…» يقول. أزمة الورقة «البيضاء» التي آلمت كثيراً شاعراً فرنسياً هو ستيفان مالارمي عاشها خليل حاوي في أيامه الأخيرة، هو الذي كان شديد الإعجاب بهذا الشاعر ودرّس في الجامعة نظريته «الخلق من عدم». وحلّت هذه الأزمة في مرحلة مأزومة من حياته. فالشاعر الذي أضحى سريره «من إبر» كما يقول، بات «يبلو طوال الأمسيات السود/ صمتاً يتلوّى، صرعة تطول». يا لهذه الليالي التي عاشها خليل حاوي وحيداً، مهيضاً، خائباً، صامتاً… حتى صراخه أصبح كتوماً، أخرس، لا يسمعه أحد، لا من قريب ولا من بعيد: «طال صمتي/ مَن تُرى يسمع صوتاً صارخاً/ في صمته/ يسمع صوتي؟»، يقول أيضاً في إحدى القصائد الأخيرة. وكان من الطبيعي أن يهجس الشاعر بالانتحار، في غمرة هذه المأساة المتعددة الوجوه، مأساة الجسد والروح، مأساة الشعر والوجود، مأساة الحياة والقدر… لم يبق لدى الشاعر ما يحلم به، لم يبق من أمل ولو ضئيل. خانته المبادئ العليا، خانته العروبة وخانه الشعر وخانه الوطن والجسد والروح. ولم يبق أمامه إلا ليقول: «فلأمت غير شهيد/ مفصحاً عن غصّة الإفصاح/ في قطع الوريد…». كم تعبّر هذه الأسطر الشعرية عن مأسوية الحال التي بلغها الشاعر، ذلك «السندباد» الذي خذله العبث والعدم بعد جولته الطويلة في ليل النفس والوجود. الشاعر التموزي خذلته أيضاً «شمس الحصيد» وحطمت الريح نايه الحزين. وها هو «العازر» يرفض الحياة والقيامة ويسقط في قبره يائساً وموحشاً: «عمّق الحفرة يا حفار…».
في الذكرى الخامسة والعشرين لرحيل خليل حاوي لا بد من طرح سؤال ملحّ: ماذا بقي من شاعر «نهر الرماد»؟ هذا السؤال طُرح كثيراً من قبل وكانت بعض الأجوبة عليه قاسية. الشعراء العرب الشباب نادراً ما يقرأون خليل حاوي، بل إن بعضاً من هؤلاء يعتبرون أنّه دخل «متحف» الحداثة والعروبة منذ أن انطوت «صفحة» القومية العربية وغدت نتفاً من الذكريات. شعراء آخرون ينتقدون مشروعه الشعري «الحضاري» الذي طالما ناءت به قصائده، حتى أمست قصائد أفكار ومواقف لا علاقة لها بالحياة والذات الانسانية. ويأخذ شعراء «تفعيليون» على شعر خليل حاوي رتابته الايقاعية وثقله الموسيقي وخلوه من الرقة والغنائية… هذه آراء يصعب تجاهلها اليوم خصوصاً بعدما أصبح حاوي بلا مريدين ولا تلامذة وبعد أن يكاد أثره يختفي من المعترك الشعري الراهن. أضحى حاوي حاضراً في أذهان فئة من النقاد الأكاديميين، وبعضهم درسوا عليه جامعياً، أكثر من حضوره في وجدان الشعراء الشباب.
لكن انحسار ظلّ خليل حاوي شاعراً قد لا يكون مأخذاً عليه، فهو واحد من الشعراء الذين رسخوا ثورة الشعر الحديث، وقد ابتدع لغته ورموزه ومشروعه الشعري – الحضاري الخاصّ متأثراً بشعراء عالميين كبار. ويجب عدم تناسي وجهه الآخر المضيء وجه الناقد الحصيف والعميق والمثقف. وأعماله النقدية التي أفاد منها طلابه الكثر تندّ عن وجهه هذا. ودراسته الأكاديمية عن جبران هي من أهم المراجع النقدية في الحقل الجبراني.
إلا أن أجمل قصيدة كتبها خليل حاوي قد تكون انتحاره. هذه القصيدة الرهيبة التي كتبها بالدم والنار جعلت منه رمزاً بل جعلت منه ذلك «البطل» الذي كثيراً ما تغنى به في شعره وكثيراً ما حنّ إليه، «البطل» الذي لا ينتصر فقط على عاهات الحلم القومي العربي بل على عاهات الزمن نفسه. ولعل خليل حاوي انتصر في انتحاره حقاً على كل العاهات التي اعترته واعترت الوطن الذي حلم به. وقصيدة الانتحار هذه لا تقلّل من قوة قصائده الأخرى، بل تزيدها متانة ونزقاً.
يقول الشاعر الألماني نوفاليس: «الفعل الفلسفي الحقيقي هو الانتحار». وانتحار خليل حاوي لا يمكن أن يُقرأ إلا فعلاً فلسفياً حقيقياً، فعلاً شعرياً حقيقياً.

المصدر: جريدة الاخبار/ لبنان
almsbah7

نورالمصباح

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 67 مشاهدة
نشرت فى 16 يونيو 2014 بواسطة almsbah7
almsbah7
"بوابة لحفظ المواضيع والنصوص يعتمد على مشاركات الأعضاء والأصدقاء وإدارة تحرير الموقع بالتحكم الكامل بمحتوياته .الموقع ليس مصدر المواضيع والمقالات الأصلي إنما هو وسيلة للنشر والحفظ مصادرنا متعددة عربية وغير عربية . »

أقسام الموقع

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

97,798

حال الدنيا

حال الناس
عجبا للناس كيف باتوا وكيف أصبحوا.
ماذا جرى لهم ؟
وما آل إليه أمرهم والى أي منحدرا ينحدرون،
أصبح الأخ يأكل لحم أخيه ولا يبالي ،انعدمت القيم والأخلاق 
والمبادئ، من الذي تغير نحن أم الحياة.إننا وان تكلمنا 
بصدق لا نساوي شيئا ،فالكذبأصبح زادنا وزوادنا، ،
إن الإنسان في العصر الحجريرغم بساطته فَكّرَ وصَنَع فالحاجة أم الاختراع، أما نحن نريد كل شيء جاهزا، أجساد بلا روح تأتي ريح الشرق فتدفعنا وتأتي ريح الغرب فتأخذنا إننا أحيانا نتحرك من دون إرادتنا كحجار الشطرنج أنائمون نحن أم متجاهلون ما يدور حولنا أم أعمتنا المادة .كلنا تائه في طريق ممتلئه بالأشواك، أشواك مغطاة بالقطن الأبيض نسير عليها مخدوعين بمظهرها بدون
انتباه وبين الحين والأخر يسعى الحاقدون لقتل واحد 
منا، فيزول القطن الأبيض ولا يبقى إلا الشوك،
فنستغرب لحالنا، لان عيوننا لا ترى إلا الأشياء البراقة 
اللامعة والمظاهر الخادعة أما الجوهر المسكين فَقَدَ 
قيمته لم يعد إلا شعارات رنانة نعزي بها أنفسنا بين 
الحين والأخر، 
هكذا أصبح حال الناس هذه الأيام.
ـــــــــــــــ
حسين خلف موسى

 دنياالوطن