مقالة بعنوان " عودة الهوية المصرية إلى الجيش المصرى " جريدة وطنى 4/2/2007م السنة 49 العدد 2354   وبداية من عهد محمد على انتقل الجيش المصرى إلى عهد جديد. فرغم الانتصارات التى أحرزها فى النوبة والجزيرة العربية وكريت والشام، لم يكن محمد على راضيا عن الجيش الخليط من الترك والألبان والمماليك الذين لم يكن يجمعهم سوى استلام المرتبات وانتظار الغنائم والأسلاب أثناء وبعد المعارك، ولم يكن يربطهم مثل عليا أو وطنية أو قومية؛ جيش لا يعرف النظام. وكان محمد على متيقنا أن هذا الجيش لن يستطيع احراز أى انتصار إذا اشتبك مع جيش أوروبى يستخدم الأساليب والأنظمة الحديثة، مما دعاه الى التفكير فى تكوين جيش جديد.
وفى محاولته الأولى (أغسطس1815) لتجنيد الفلاحين المصريين انضم علماء الدين إلى الألبانيين وعارضوه ووصل الأمر الى التآمر على حياته، لذا التجأ الى تجنيد السودانيين، وأحضر لتدريبهم ضباطا من فرنسا وأسبانيا والبرتغال ليتحاشى الإستعانة بالضباط الأتراك حتى لا يثير شبهات الباب العالى. ولكن التجربة فشلت لأسباب متعددة أهمها أن السودانيين ليس لديهم حافز وطنى للإقبال على الخدمة العسكرية. فلم يبق أمام محمد على مفر من الإلتجاء مرة أخرة، في 1820، إلى تجنيد المصريين، وقصر ذلك على المسلمين. وقد عارضت الطبقة الأرستقراطية التركية ذلك بشدة وكانت حجتهم أن الجندية مهمة نبيلة يحط من قدرها أن تصبح فى متناول الفلاحين، ورأوا أن وضع السلاح فى أيدى الفلاحين (المغلوبين) انما هو تسليمهم الأداة التى يطردون بها العثمانلى (الغالبين). ومن ناحية أخرى، قاوم الفلاحون تجنيدهم لأنهم لم يروا مصلحة لهم فيه، حيث لم يكن لديهم ما يدافعون عنه أو يموتون فى سبيله واعتبروا التجنيد عملا من أعمال السخرة .
ولكن وبمرور الوقت تجاوب الفلاحون مع الوضع الجديد، ويقول مورييز (Mouriez) فى كتابه "مصر الحديثة من 1840 – 1857": [إذ انتظم الفلاحون فى الجيش النظامى ألفوا بسرعة حياتهم الجديدة، وبعد أن كانوا معتادين الذل والمسكنة فى قراهم، استشعروا تحت راية الجيش كرامتهم الإنسانية وأخذوا يفخرون بأنهم جنود محمد على ويقابلون غطرسة الترك بمثلها، ولم يقبلوا أن يسموا فلاحين وعدوها تصغيرا لشأنهم لأن هذه التسمية كانت تشعرهم بشىء من المهانة، ونالوا من الحكومة أمرا أن لا ينبذهم أحد بكلمة فلاحين].
وقد استعان محمد علي بالوعاظ فى ترغيب الفلاحين، كما أوعز إلى ابنه إبراهيم أن يذكرهم بالأقباط الذين كونوا كتيبة إبان الحملة الفرنسية، فالأولى بالفلاحين الذين شرفوا بنور الأيمان أن تأخذهم الغيرة وينخرطوا فى جيش محمد على.
عندما بدأ محمد على فى تجنيد الفلاحين كان جمع الجنود يتم بانقضاض العمد والمشايخ بمعاونة الجنود على القرى فجأة ليسوقوا أبناءها مكبلين بالأغلال إلى عاصمة المديرية. وأورد د. السروجى أنه كان يؤخذ للجندية فى بعض الأحيان المسيحيون المعفون منها نتيجة لعدم القدرة على التمييز بين المصريين المسيحيين والمسلمين، وعدم وجود سجلات وغياب أى تنظيم لعملية التجنيد؛ وهو ما يؤكد عدم سماح محمد على حتى هذا الوقت للمصريين المسيحيين بالإنضمام إلى الجيش ولو كمجندين. أما قيادات الجيش فظلت فى يد العناصر الأجنبية بصفة دائمة وكانت هذه العناصر تنقسم الى قسمين:
الأول، العناصر الغير مصرية من الترك والألبان والشركس. ويظهر هذا عند إيفاد البعثات العسكرية الى أوروبا حيث كان كبار الضباط على الدوام من غير المصريين. وتأكيدا على ذلك نجد أن أعلى رتبة وصلها ضابط مصرى فى عهد سعيد باشا كانت القائمقام (عقيد) وفى عهد إسماعيل باشا كانت أميرآلاى (عميد).
الثانى، العناصر الأوروبية من مستشاريين عسكريين من إيطاليا وأسبانيا والبرتغال وفرنسا لتنظيم نواة الجيش. واستمر هذا الوضع عقودا، وعندما عارضت فرنسا مشروع استقلال مصر فى عهد إسماعيل استُبدلت البعثة العسكرية الفرنسية بأخرى أمريكية غير رسمية. وقد استخدم الضباط الأوروبيين فى قيادة الحملات العسكرية المصرية فى السودان والحبشة.
وعندما فكر محمد على فى أخذ مكان الباب العالى، شن حربا على الآستانة وتقدم الجيش المصرى مستوليا على الشام وأصبح على أبواب أنقرة فوقفت ضده جميع الدول الأوروبية خوفا من زيادة قوته فيما لو تمكن من أن يحل محل الامبراطورية العثمانية التى كان من الواضح أنها بدأت تتهاوى، وكانت كل الدول الأوروبية ليس فقط منتظرة انهيارها ولكنها تعمل على سرعة هذا الانهيار لترثها، فاضطر محمد على إلى إعادة جيشه إلى مصر وأجبر على الحد من عدده بما لا يسمح له بتكرار المحاولة مرة أخرى. وتعتبر الميزة الوحيدة التى تمكن من أخذها هو الاقرار باستمرار حكم مصر فى عائلته وأن يعطى حاكم مصر لقب خديوى.
ولكننا وحتى نكون منصفين فلابد وأن نقر بأن عصر محمد على يعتبر بداية جديدة لكل شىء فى مصر وخصوصا تجاه المسيحيين فهو الذى أوجد جوا اجتماعيا جديدا واتبع سياسة تسامح حقة، ولأن خلفاءه كانوا مشبعين بنفس هذه الروح فقد انتهجوا نفس السياسة تقريبا. لقد وصل محمد على فى فترة مضطربة، فالخزينة خاوية ومصروفات الدولة باهظة والمسيحيون معرضون دائما لابتزاز الحكام واضطهادهم الشديد، فبدأ فى اتباع سياسة تسامح حذرة ومن ضمن ما قاله "لا أريد أن تكون هناك فوارق بين أفراد شعبى المنتمية الى أجناس أو أديان مختلفة، ويجب ألا يختلفوا إلا فى طريقة الصلاة فى معابدهم". وبمجرد ما استقرت له الأمور بدأ في اتباع سياسة المساواة بين المسلمين والمسيحيين لأنه يحتاج الى خدمات الاثنين، وقدر أنه لا داعى لتحقير المسيحيين بدون سبب لأن أى شخص لا يمكنه تأدية واجبه على أكمل وجه ما لم يكن محترما بين الناس. وتطبيقا لذلك عين بعض المسيحيين كمأمورى مراكز مختلفة أغلبها فى الصعيد، كما ألغى قيود الزى التى كانت مفروضة عليهم، وألغى القيود على ممارستهم لطقوسهم الدينية، ولم يرفض أى طلب تقدموا به لبناء أو اصلاح الكنائس.
ولعله من المفيد أن أنقل هنا جزء من تقرير الدكتور سير جون بورنج (John Bouring) (محفوظ فى وزارة الخارجية البريطانية تحت رقم 78 مجلد381) والذى قدم الى مجلس العموم البريطانى سنة 1840 يقول فيه:
[لا ريب أن نفوذ القبط آخذ فى الازدياد وقد يكون لهم فى قابل الأيام أثر غير ضئيل فى تاريخ مصر. وقد مرت بهم قرون ذاقوا فيها ألوانا من قسوة الألم ومرارة الاضطهاد والإذلال، وكان الترك يعتبرونهم طائفة المنبوذين فى الشعب المصرى. ومع ذلك فهم قوم من صفاتهم حسن المعاشرة وحب السلام والفطنة والذكاء، وأقبح نقائصهم مردها إلى سعيهم وراء ملجأ يعصمهم من النهب والأذى. وثمة شىء من التعاطف بين القبط وأبناء العرب (ربما يقصد المصريين المسلمين) لعله نتيجة ما يقاسونه جميعا من آلام].
وقد حدثت انتكاسة أثناء حكم عباس الذى صمم على طرد المسيحيين الذين يرفضون اعتناق الإسلام من مصر إلى السودان، غير أن المنية وافته ولم يحكم سوى حوالى خمسة سنين.
لكن البذرة التى بذرها محمد على بدأت تنمو و تؤتى ثمارها، ففى عهد سعيد باشا حدث تطور كبير حيث أصدرت الحكومة في مارس 1858 أمرا بسريان التجنيد على المسيحيين. وبالرغم مما فى هذا الأجراء من مساواة بين المسيحيين والمسلمين فى خدمة بلادهم فإن الأقباط لم يرحبوا به - كما يقول د. السروجى - "لأنهم قوم ميالون بطبيعتهم الى أعمال السلم ولا يرغبون فى الحرب، هذا بالإضافة إلى أن عدم تجنيدهم منذ الفتح العربى لها - باستثناء المحاولة التى تمت أثناء الحملة الفرنسية - قد أبعدت بينهم وبين الحرب". ونحن نضيف إلى هذا أنها قد تكون أيضا نفس الأسباب التى دعت مواطنيهم المسلمين لعدم الترحيب عندما بدأ محمد على فى تجنيدهم، بالإضافة إلى خوفهم من أن يكون هذا الأجراء وسيلة لاضطهادهم. ونحن نلتمس العذر لمسيحيى ذلك الوقت فى تفكيرهم هذا نظرا لما عانوه من اضطهاد على مدى حكم غير المصريين والذي استمر ما يقرب من ألفى سنة، وخاصة ما تعرضوا له فى فترة عدم الإستقرار التى مرت بها البلاد بعد خروج الحملة الفرنسية وإلى أن استقرت الأمور فى يد محمد على.
وترتب على ذلك أن سعيد باشا أيضا ألغى في ديسمبر 1858الجزية التى ظلت جاثمة على صدور المصريين المسيحيين منذ الغزو العربى فى منتصف القرن السابع الميلادى. وقد يكون من المفيد هنا أن أنقل من خطبة ألقاها سعيد باشا فى مأدبة كبيرة أقامها فى قصر النيل: [أيها الأخوان أنى نظرت فى أحوال الشعب المصرى من حيث التاريخ فوجدته مظلوما مستعبدا لغيره من أمم الأرض فقد توالت عليه دول ظالمة له كثيرة كالعرب الرعاة (الهكسوس) والأشوريين والفرس حتى أهل ليبيا والسودان والرومان، وهذا قبل الأسلام وبعده تغلب على هذه البلاد كثير من الدول الفاتحة كالأمويين والعباسيين والفاطميين من العرب والترك وألأكراد والشركس وكثيرا ما أغارت فرنسا عليها حتى احتلتها فى أوائل هذا القرن فى زمن بونابرت. وحيث أنى أعتبر نفسى مصريا فوجب على أن أربى أبناء هذا الشعب وأهذبه تهذيبا حتى أجعله صالحا لأن يخدم بلاده خدمة نافعة ويستغنى بنفسه عن الأجانب، وقد وطدت نفسى على أبراز هذا الرأى من الفكر الى العمل].
وفعلا التفت الى الناحية المعنوية فى الجيش فعمل على ترقية كثيرين من الضباط المصريين الى المراتب العسكرية السامية بعد أن كانت وقفا على الأتراك والشراكسة.
استمر تجنيد المسلمين والمسيحيين على قدم المساواة فى عصر أسماعيل، بل نجد أن الجيش المصرى ضم المسيحيين بجميع مذاهبهم، وبذلك استطاعت مصر أن تحل مشكلة تعدد الديانات فى مصر حلا عمليا، هذه المشكلة التى طالما حيرت الباب العالى وكان غرض الحكومة المصرية من ذلك هو ألا تبقى على امتياز يوجد الحسد والبغضاء بين رعاياها.
وهنا يمكننا أن نلخص موقف وطبيعة وتأثير ما حدث للجيش المصرى فى الآتى:
* تحول من جيش غير نظامى الى جيش نظامى،
* أصبح جيشا وطنيا،
* انتقلت السيطرة على مصر من يد المماليك الى يد الطبقة البرجوازية المصرية الجديدة التى يمثلها فى الجيش الضباط المصريون.
ثم جاء توفيق بشخصيته التي تختلف تماما عن اسماعيل، إذ لم يكن محبا للمصريين ويميل إلى العناصر التركية والشركسية. وشعر بقوة عرابى فى الجيش، التى اكتسبها من خلال الأعداد المتزايدة للضباط المصريين الذين لم يكونوا راضين عن الميزات التى ما زال يتمتع بها الضباط الأتراك والشراكسة بينما هم المصريون أصحاب البلد محرومون منها، بالاضافة إلى تبنيه مبادىء الحزب الوطنى الأهلى الذى تأسس سنة 1879 م وجعله ميثاقا وطنيا لثورته.
بعد ثورة عرابى ومظاهرة عابدين الثانية عمت البلاد حالة من الفوضى مما أعطى الفرصة لبريطانيا لتتدخل بحجة حماية الخديوى، وفى يوليو 1882 بعد أن ضرب الاسطول البريطانى مدينة الاسكندرية نزلت القوات البريطانية الى الاسكندرية وبدأ احتلالها لمصر الذى دام 74 عاما.
واذا انتقلنا الى فترة ما قبل الحرب العالمية الثانية، كتب البكباشى عبدالرحمن زكى تحت عنوان "الجيش يؤدى يمين الطاعة للملك" يوم 14 يناير1938: [وقد وضعت على قيد خطوتين من مكان جلالته منضدة ومن فوقها المصحف الشريف وقد أصطف ضباط هيئة القيادة فى عرض الغرفة صفين متقابلين ثم أدوا التحية العسكرية لجلالة الملك فرد عليهم التحية شاكرا. وبعد ذلك تهيأوا لحلف اليمين فاقتربوا من المنضدة سبعة فسبعة وكان أحد السبعة وهو أقدمهم يتلو اليمين من ورقة مطبوعة فيرددها الستة ألآخرون وكانوا فى أثناء ذلك يلامسون المصحف الشريف المرفوع فوق المنضدة، أما الضابطان المسيحيان وهما اللواء نجيب مليكة باشا وألأميرآلاى باسيل سوسو بك فقد أمسك كلاهما خلال ترديد اليمين مع زملاءهما بنسخة من الأنجيل المقدس].
***
لقد استعاد جيش مصر هويته المصرية بعد أن ظل فاقدا لها حوالى ألفي سنة. ومن المثير للتأمل أن ما تخوف منه الأتراك فى عهد محمد على ومعارضتهم لتجنيد الفلاحين المصريين قد تحقق: فبعد خمسين عاما تقريبا وقف أحمد عرابى فى وجه الخديوى توفيق مطالبا بمساواة الضباط المصريين بالأتراك والشركس، وبعد سبعين عاما أخرى وبعد تنحية ملك مصر ذي الأصول غير المصرية، يتقلد الحكم مصرىٌ بعد ألفي سنة من حكم الغرباء، ويكون ضابطا من أبناء الفلاحين المصريين.
ويؤكد لنا التاريخ أننا كمصريين، وبغض النظر عن انتمائنا الدينى مسلمين ومسيحيين، عندما نتعرض للقهر نتعرض له سويا - وإن كان بدرجات متفاوتة - وعندما تسنح الفرصة لنا لنيل حقوقنا ننالها معا - وان كان أيضا حتى الآن بدرجات متفاوتة. لذا فعلينا جميعا أن نعمل لنتخلص من هذه الدرجات المتفاوتة حتى لا تكون عودة الهوية فقط للجيش المصرى ولكن تكون عودة لهوية الوطن ذاته.

 

 

 

 

===========================================================

المـــــــــــراجع

(1) ـ الجيش المصرى فى السياسة ـ د. عبدالعظيم رمضان
(2) الجيش المصرى فى القرن 19 ـ د. محمد محمود السروجى
(3) الجيش المصرى الحديث ـ البكباشى (مقدم) عبدالرحمن زكي
(4) تاريخ مصر من عهد المماليك الى نهاية حكم اسماعيل ـ جورج يارنج، تعريب على أحمد شكرى
(5) بناء دولة مصر محمد على ـ د. محمد فؤاد شكرى

المصدر: Encyclopedia - أنسكلوبيديا موسوعة تاريخ أقباط مصر - coptic history بقلم عزت اندراوس
aliabdallah77

الحمـدلله

  • Currently 37/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
12 تصويتات / 370 مشاهدة
نشرت فى 18 يناير 2011 بواسطة aliabdallah77
aliabdallah77
إذا نزل مؤمن وكافر إلى البحر فلا ينجو إلا من تعلم السباحة فالله لا يحابي الجهلاء فالمسلم الجاهل سيغرق والكافر المتعلم سينجو »

تسجيل الدخول

ابحث

عدد زيارات الموقع

629,726

لا تنسى ذكر الله

اللّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ