ينتهج النظام التعليمي لدينا تجزئة عمليات التعليم والتعلم إلى مجموعة من الإجراءات تبدأ بمرتكز مهم هو (صياغة أهداف سلوكية تتميز بكونها صغيرة ومحددة ويمكن قياسها).
وهذا الإجراء يُسهل العمليات التابعة المترتبة على الهدف السلوكي على النحو التالي:
- اختيار الوسائل والأدوات والأنشطة المعينة على تحقيق الهدف والتي تمثل الجزء الأهم في عمليات التعلم بعرض المادة الدراسية ومحاولة تبسيطها وتقديمها للطلبة بشكل محبب..
- اختيار أداة القياس حيث ينتهي هذا النموذج بعملية التقويم والقياس لتحقق الهدف
وبذلك تصبح عملية قياس وتقويم ماتم تعلمه فعليًا سهلة عند ربطها بالأهداف السلوكية ،
وتكون تلك الأهداف بمنزلة موجهات للسلوك وترسم طريقًا محددًا للعمل التربوي يقلل من نسبة الخطأ..
هذا النموذج يمكن تصنيفه على أنه ضمن مدرسة (الإدارة بالأهداف) التي تمنح الهدف مكانة عليا في الممارسة
لكن الاهتمام بالأهداف السلوكية مبالغ فيه بحسب ما يراه بعض المنظرين بل إنهم يذهبون إلى اعتبار هذا الاهتمام غير مبرر وذلك انطلاقًا من اعتبارات كثيرة جدًا منها ماله علاقة (بطبيعة عملية التعلم) ومنها ماله علاقة بدور الأهداف السلوكية في تنميط ومكانيكية التعليم وجعله آليًا ورتيبًا يسير وفق خط سير لايسمح له بممارسات أكثر إثارة ويجعل من بيئة التعلم والتعليم وكأنها فعل مكانيكي جامد,
ولاشك أن التشدد في الالتزام بالهدف السلوكي أسهم فعليًا في قتل روح التجديد فلم نسمع أو نقرأ كثيرًا عن نقد لهذا الأسلوب ولم نر دراسات جادة محليًا تتحدث عن أثره ونتائجه
الأمر الذي جعله يستمر رغم الحقائق التي نلمسها على أرض الواقع أصبح هذا النموذج (باعثًا على الملل ومدعاة لحدوث حالة من الجمود الذي يغلف الآليات والممارسات الأمر الذي يفضي إلى جعل العملية التعليمية برمتها آلية لاحياة فيها تفتقر للإيقاع والروح)
البعض يقول إن هذا الأسلوب جيد لكن في تلك المؤسسات التي تصوغ أهدافها بعناية ومتى كان من يقومون بصياغة الأهداف من المدربين- (بفتح الراء) -بشكل جيد على صياغة الهدف بدقة بحيث يرتبط برؤية ورسالة المؤسسة
لكن المشكل في التربية أن المؤسسة كبيرة جدًا تتجاوز المدرسة والفصول لتدلف إلى كل حصة بل أجزاء الحصة الأمر الذي يجعل الأمر صعبًا لأن المعلمين يعانون مشكلات حقيقية في صياغة أهداف سلوكية ذات قيمة كبيرة. (صحيح أن الكثير من المعلمين يستطيع صياغة هدف سلوكي... لكن مامدى قيمة هذا الهدف ومامدى ارتباطه بأهداف المؤسسة الكبرى ومامدى نجاحه في تحقيق الغايات المتوخاة من عملية التربية؟)، والركون إلى تلك الأهداف والتعويل عليها واعتمادها كنمط وتقييد التعليم بها جعل منها قوة أرضية تشدنا نحو الأسفل وتؤثر في (ممارسات المعلمين والمشرفين والمتعلمين) فلا تجديد يذكر نراه أو نلمسه في الممارسات.
منطقيًا القول: أن التربية وعملياتها ومواقفها أكثر تعقيدًا من هدف سلوكي مصاغ بطريقة ما، قد تكون طريقة صياغته اجتهادية مما يجعلها تغوص في العشوائية أو قد تأخذ الممارسات إلى مساريب أخرى لا تحقق غايات التعليم والتعلم وقد تحول العمل إلى مواقف جامدة تنقصها المرونة .. ومتى فقدت المرونة فقد التجديد.
بنظرة مسحية على دفاتر تحضير المعلمين سنجدها عبارة عن مجلدات ضخمة من الأهداف السلوكية بل هي نسخ متشابهة لم تحظ بالمراجعة أو التمحيص
ولايوجد دليل عملي يؤكد أن إدارة العملية التعليمية بالأهداف السلوكية نجح في خلق واقع أفضل للتعليم لدينا حيث يعرف الجميع أن تعليمنا لايصنف ضمن قوائم التعليم عالي الجودة،
الركون إلى هذا النموذج (خلق حالة عامة من الركون وعدم التجديد) وهذا يتنافى مع ممارسات التربية الجادة لأن التربية الحقيقية قادرة على ممارسة النقد وخلق منظومة متكاملة تركز على مختلف الجوانب وتصنع مواقف تعليمية متكاملة متينة ومترابطة
وقد تكون من أكبر معضلات الأهداف السلوكية أنها تفرز لنا عقلية نمطية في ممارساتها.. بسبب التركيز الشديد عليها وجعلها مرتكزًا للعمل... ولاشك أن العقلية النمطية التي تخلقها هذه الممارسة تصنع بيئة لا تهتم بالجديد من الممارسات وتكبل حتى المشرفين والمعنيين بالتقييم وتجرهم نحو ممارسات تدعو إلى الاحتفاظ بالراهن وجعل الإشراف التربوي تصحيحيًا (مهموم بصيانة الأوضاع الراهنة (التحضير والإعداد وفق الأهداف السلوكية) يحدث هذا رغم أن النظريات التربوية تتجدد باستمرار وتتعرض لتغيرات مستمرة تتطلب تطوير الأوضاع الراهنة وتجديدها وخلق (عناصر مُبادرة-بكسر الباء- لا عناصر استجابية لما يطلب منها فقط والبحث عن آفاق جديدة)،
الاهتمام المبالغ فيه بنظام العمل وفق الأهداف السلوكية لايخلق ممارسين فاعلين (مشرفين ومعلمين وطلاب) ويقلل من فرص ظهور (ممارس مرن) يتحلى بكونه:
مخاطرًا يرفض(الراهن) (يبحث عن الجديد) يعيش(على الحافة) يتميز بكونه(متوثبًا) يحاول (إزاحة الحدود وإبعادها عنه) وتوسيع (الدائرة التي يتحرك خلالها) و(لايحبس نفسه في قفص الكليشهات الجاهزة)و (القوالب التي يرسمها له الآخرون) وقد تغفل (واقعًا مختلفًا يحيط به)
كذلك فإن فريقًا من المعلمين غير مقتنع كثيرًا بتأثير الأهداف السلوكية في الوصول إلى تعليم جيد، فضلًا عن عدم اتفاق المنظرين والأدب التربوي وخبرائه على حقائق ومواصفات التعليم الجيد وهل من بينها (صياغة هدف سلوكي أم لا)
ويظهر على السطح مشكلة أخرى حيث يرى كثير من الخبراء أنه ليس كل ماهو هام في عمليات التعلم والتعليم يمكن قياسه وليس كل مايمكن قياسه هامًا.. الأمر الذي يجعل قائمة الأهداف السلوكية غير قادرة على استيعاب كل مايجب أن يقاس وبالتالي إغفال كثير من الممارسات الهامة لعدم وجود هدف سلوكي كما أن كثير من الأهداف السلوكية يمكن قياسها لكنها غير مهمة وهنا نتخيل فرضية جديرة بالتأمل حول (الهدف السلوكي من حيث قيمته) لنتخيل أن معلمًا ما قام بصياغة مجموعة كبيرة من الأهداف السلوكية بطريقة صحيحة ووفق قواعد صياغة الهدف السلوكي وكان عدد الأهداف المصاغة بطريقة صحيحة كبير جدًا لعدد كبير من الموضوعات لكنها أهداف غير ذات قيمة.
أليس في هذه الممارسة صرف لوقت وجهد المعلم والطالب وبالتالي جهد المؤسسة بأكملها على أهداف غير مهمة أو ضعيفة الأهمية أو غير ملائمة؟
وهذا يعني أن هناك أهدافًا أخرى أكثر أهمية تم إهمالها وأهداف يصعب قياسها رغم أهميتها وتكون الممارسة قد انحرفت نحو جهد ضائع وهذا يتنافى مع ممارسات الجودة والمؤسسات النوعية في عملها... حيث تحرص على توجيه كل الجهود نحو ما هو مثمر وخلاق.
وختامًا فإن هناك جدلًا جادًا يدور حول: جدوى تفتيت العملية التربوية ومواقفها وعملياتها المختلفة إلى وحدات أصغر وهل يحقق هذا النهج للممارسة التربوية المزيد من الإضافات أم أنه يشتت جهود العاملين فيها؟
كل هذا النقد أعلاه إلى جانب وجود عدد من الدراسات المدعومة بأحاسيس المعلمين التي تؤكد ضعف تأثير الأهداف السلوكية على تحصيل الطلبة تجعل الدعوة ملحة إلى مراجعة هذا النمط من التعليم الذي تركز عليه النظم التعليمية السائدة لدينا.. وصولًا نحو ممارسات حديثة تتجاوز الراهن من الممارسات وتبعث الروح في أوصال التعليم الذي كبلته مثل هذه الممارسة وجعلته نمطيًا
لذا تبدو الحاجة ماسة للمراجعة والتأمل والنقد وإتاحة الفرصة أمام الدراسات الجادة التي تدرس هذا الواقع وتجعل من دراسة جدوى الأهداف السلوكية واستمرار العمل بها موضوعها الرئيس.
نشرت فى 4 ديسمبر 2011
بواسطة alfaresmido
الفارس أحمد عطا
ابحث
تسجيل الدخول
عدد زيارات الموقع
115,485
ساحة النقاش