فشلت كل محاولات عصابة العقرب في السطو على أي بيت من بيوت القرية بعدما تنبه الناس وتكاتفوا وتصدوا لهذه السرقات التي أرهقتهم أعواماً كانوا فيها متباعدين، يجبنون عن نصرة المظلوم، والبطش بالظالم.
استخدمت عصابة العقرب كل وسيلة في الترويج لأنفسهم؛ بإثارة الشائعات بأنهم قد طوّروا من أنفسهم وزادوا من أعدادهم فأصبحوا لا يُقهرون، بثوا عيونهم وجواسيسهم يلقون الرعب في قلوب الناس حيناً بأن أحداً لن يستطيع التصدي لهم بأي حال بعد الآن، وأن فلاناً (أحد المناصرين لهم) قد رآهم يخطفون فلاناً، وآخر رآهم يخرقون الجبال ويهربون خلالها.. ويبثّون الوهن في نفوس الناس حيناً آخر بتخذيل مناصريهم لهمم الناس بأنه مهما كثرت الأعداد التي تدرأ شرهم في المعركة المرتقبة؛ فإنه لا بد من ضحايا، قد تكون أنت أو أنا أحدهم.
لكن كل ذلك فشل أمام عزم الناس وإصرارهم ألا يُستباحوا وألا تراق عزتهم وكرامتهم، وإن جرؤ هؤلاء على النيْل من أحدهم، كان الثأر بُغية كل فرد فيهم لردّ حق هذا المهدور، وإلا فلتجرِ الدماء أنهاراً تغسل عار المذلة والمهانة.
المهم أن عصابة العقرب بدهاء كبير فكروا في حيلة جديدة يقتلون بها مصداقية الناس لدى بعضهم ويشتتون شملهم؛ فأخذوا يبثون شائعات لكن من نوع جديد، شائعات تنكشف حقيقتها سريعاً، واستمروا في نشر الشائعة تلو الأخرى، وأخذوا يتفننون في بث شائعات خيالية تنكشف سريعاً أو لا تنطلي على عاقل؛ حتى أصبح من المعتاد عند الناس أن كل خبر عن عصابة العقرب هو شائعة من الشائعات.. يصرخ أحد أنصارهم محذراً من عصابة العقرب، وعندما يهبّ الناس لنجدته يقول: إنه قد رأى غباراً من بعيد وضجّة فظن أنهم عصابة العقرب.
وهكذا حتى أصبحت عقيدة أهالي القرية أن عصابة العقرب قد اختفت، وأن الأخبار التي تأتي عنها هي شائعات مكذوبة، فكل نجدة للقضاء عليهم هي محض كذبة أو خيالات مريضة..
حتى حانت اللحظة، وضربت العصابة ضربتها القاضية التي قصمت ظهر المقاومة، وغزت البيت تلو البيت؛ فقتلت رجال القرية وأطفالها، واستباحت نساءها، وانتقمت لنفسها من المقاومة العزيزة، وأعادوا القرية إلى قيود المهانة.
كثيراً ما تعاملنا يا أعزائي مع ما يحيط بنا كقوالب ثابتة؛ ففلان يتعامل بهذه الطريقة فهو هكذا دائماً، وفلان فقير فهو فقير دائماً، وهناك شائعات حول الموضوع الفلاني فنحكم على كل ما يرد عنه بأنه شائعة.. أو كل ما تبثه القناة الفلانية حقيقي؛ فنصدق كل ما تقوله دون أن نفكر أو ندرس أو نتريث؛ حتى تفاجئنا الأيام بما هو جديد، دون أن نعرف خلفية الأحداث وملابسات المواقف.
ولعل أهل القرية قد تعلموا بعد فوات الأوان أن كل شيء خاضع للنقد والشك والتفكير، وأنه لا يجب الاطمئنان والتسليم بأي شيء، وأنه من الخطر أن نستسلم لتصورات مسبقة عن شيء ما دام هذا الشيء قابلاً للتغيير والتبديل، وألا نمنح الثقة المطلقة في شخص ما أياً كان؛ فكل ثقة لها حدود ما دام يمكنني أن أفكر فيما أمنح وآخذ..
فأعداؤنا يلعبون على أوتار كسلنا عن التفكير ونكوصنا عن جهد التثبت من حقائق ما نسمع ونرى؛ كالشيطان الذي يوسوس للمرء أن يترك الصلاة وينصرف عن العبادة؛ فإذا رأى العبد ثابتاً في عبادته مصراً على طاعته وعلى دحض وساوس الشيطان اللعينة؛ بدأ في الوسوسة ليوصل العبد للمبالغة في التطرف في العبادة والطهارة؛ حتى يتحول الأمر لوسوسة تؤدي بالمرء إما إلى الجنون أو الانصراف من تلقاء نفسه عن عباداته لأنه كَرِه ما يفعل من مبالغات.
فاسمع جيداً أيها القارئ واقرأ وانظر وتأمل، وفكر في كل ما يلقى إليك قبل أن تصدّق أو تكذّب أو تتّبع؛ فإن العدو كذلك يثور على أفكاره البائدة التي قضَت عليه من قبل.
ساحة النقاش