بعد انتصار المسلمين في مكة, وتقليم شوكة هوازن وثقيف, شعرت القوى المناوئة للإسلام بخطر ذلك الدين الجديد، وترامى إلى النبي أن الروم تعد جيشا؛ لتغزو به شمال الجزيرة يُنسي الناس انسحاب المسلمين الماكر في مؤتة, ويُنسي الناس ذكر المسلمين وسلطانهم الزاحف في كل مكان.


الوقت صيف, والحرارة في أوجها, والثمر قد اقترب نضجه ويغري بالمكوث في المدينة, والعدو تعداده ضخم وقوي, ويبعد مئات الأميال التي تقطعها صحراء تشوي نيران رمالها الجلود.


ولهذا كله.. وعلى غير عادته أعلن النبي أنه يتجهز لقتال الروم, وكان قبلها يخفي وجهته إذا خرج لقتال.
كانت بحق "غزوة العسرة", لم يقدر عليها إلا ذوو الإيمان الحق, وآيات سورة التوبة تنبئ أن تلك الغزوة كانت المعيار الذي فصل بين أهل النفاق، وأهل الإيمان في المدينة.


وبعد سفر شاق, عانى فيه المسلمون ظمأ الصحراء, والشمس الحارقة, بلغوا تبوك في الشمال, فلم يجدوا عدوا, فقد آثر الروم الاختباء خلف أسوار دولتهم.


ويعود الحبيب, ويهرول إليه المخلفون الذين آثروا المكوث في المدينة حيث الماء البارد, والهواء العليل على الجهاد في سبيل الله.. يعتذرون بأسباب واهية, ويقبل النبي أعذارهم, ويوكل أمرهم إلى ربهم.


والعجب كان من المخلفين الثلاثة من الصحابة ممن صلح إيمانهم, ولكن أقعدهم التسويف في التجهز مع رسول الله.
كان من هؤلاء الصحابي كعب بن مالك الذي شهد كل غزوات رسول الله فيما عدا بدرا الكبرى, لم يتخلف عن واحدة منها..

ترى ماذا سيقول للنبي الآن؟
يجلس كعب بين يدي النبي في المسجد, عازما على قول الصدق, "والله إني لو جلست عند غيرك من ملوك الدنيا لرأيت أني سأخرج من سخطه بعذر, ولقد أعطيت جدلا, ولكني والله لقد علمت إن حدثتك اليوم حديث كذب ترضي به عليّ , ليوشكن الله أن يسخطك عليّ, ولئن حدثتك حديث صدق تجد عليّ فيه, إني لأرجو فيه عفو الله عني.. والله ما كان لي من عذر, والله ما كنت أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك".


ويقول النبي: أما هذا فقد صدق, فقم حتى يقضي الله فيك.

ويُصدر النبي أمره للمسلمين بمقاطعة الصحابة الثلاثة الذين تخلفوا, فتنكرت لهم الأرض, وضاقت عليهم أنفسهم, تكاد قلوبهم تنشق من شدة الحزن على ما كان منهم.


ويستمر الثلاثة على تلك الحال 50 يوما.. بنفس عدد الأيام التي استغرقتها غزوة تبوك..


وأخيرا جاءت توبة الله.. فبينما كعب في بيته يصلي الفجر سمع صوت صارخ على جبل ينادي بأعلى صوته: يا كعب بن مالك, أبشر..


فخرّ ساجدا، وعلم أن الله تاب عليه..


وهرول إلى الحبيب صلى الله عليه وسلم يقول: "حتى دخلت المسجد, فإذا رسول الله جالس وحوله الناس, فقام إليّ طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحني وهنأني, والله ما قام إليّ رجل من المهاجرين غيره, ولست أنساها لطلحة".


انظر يا صاحبي.. لقد كسب طلحة صديقا إلى الأبد, بفعل بسيط للغاية, حينما عبّر عن فرحته بتوبة الله على كعب, فقام إليه واحتضنه..


لم يكن المسلمون في مسجد رسول الله بأقل فرحا من طلحة بتوبة الله على أخيهم كعب, لكن كعبا أحس بالعاطفة التي يكنّها له طلحة.. لماذا؟ ربما لأنه كان محروما من أي ابتسامة, لم تزره السعادة طوال فترة المقاطعة, والتي لم يعرف خلالها إلا الهمّ والحزن, فلما طرق قلبه الفرح كان أول من هنأه طلحة.. فترك ذلك الأثر الطيب في نفسه.


فتنبه يا صاحبي.. واعلم أنك "تستطيع أن تكسب من الأصدقاء في شهرين أكثر مما تكسبه في عامين، إذا ركّزت على أن تهتم بالآخرين بدلاً من أن تركّز على أن يهتم الآخرون بك" كما يقول الكاتب الأمريكي ديل كارنيجي.


فالصديق وقت الشدة يكون أشد ما يحتاج إليك, يكون كالنبتة في قيظ الصحراء تشتاق إلى قطرة ماء تمدّ لها أسباب الحياة, ويحتاج إلى من يشدّ أزره ويقوي عزمه, ويحتاج قلبا مخلصا يبثه أحزانه, وحبيبا يستند إليه عندما تتنكر له الحياة, لا من يسير في موكبه وقت النصر, مختفيا وقت المحنة.

واعلم أن "الصداقة تحتاج إلى موهبة كي تحافظ عليها" كما يقول الروائي المصري محمد مستجاب. فإيقاع الحياة السريع, وضجيجها الصاخب خيّل للبعض أنها تعطي عذرا للتخلف عن مؤازرة الصديق, ولهذا كثيرا ما نسمع "آسف.. انشغلت في عملي"، "الدنيا مشاغل", وكلها مبررات تخصم من رصيد المحبة والصحبة ولا تضيف إليه.


فاحرص يا صديقي على تعلّم فنّ اكتساب الأصدقاء والمحافظة عليهم.

alfaresmido

أنا مسلم .. أعتز بديني

  • Currently 15/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
5 تصويتات / 103 مشاهدة
نشرت فى 31 أغسطس 2011 بواسطة alfaresmido

ساحة النقاش

الفارس أحمد عطا

alfaresmido
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

115,390