عندما يدخل الطفل عامه الثالث، وهو بداية مرحلة الطفولة المبكرة أو مرحلة ما قبل المدرسة (3 - 6) يكون قد أتقن ثلاثة من جوانب السلوك على جانب كبير من الأهمية في مسيرة نموه، وهي الكلام الفطام والمشي. فهو يستطيع أن يتكلم ويعبر عن نفسه مثلما يفعل الكبار، كما يأكل الآن مع الكبار، وكما يأكلون، وهو يمشي ويتنقل مثلهم في المكان، وهو ما يجعلنا نقول إن الطفل مع بداية عامه الثالث يدخل مرحلة جديدة من حياته النفسية، وهي العوامل أيضًا التي تجعل الطفل يزداد شعوره بذاته وإدراكه لقدراته، مما يعبر عنه علماء النفس بنمو مفهوم الذات.
ويبدأ الطفل في هذه السن في الانتباه إلى ذاته ككيان منفصل عن الوالدين مستقل بذاته له رغباته الخاصة، وتنمو لديه نزعة "التمركز حول الذات"، وأثر هذه النزعة في سلوك الطفل أنها توجهه إلى الحرص على تحقيق رغباته بصرف النظر عن متطلبات الموقف أو رغبات الآخرين. كما أنه لا يفهم بعد معنى التأجيل والانتظار، فهو طفل "آني"، أي أنه يريد أن تُلبَّى رغباته بمجرد أن يشعر بها. أو أن يصرح برغبته في إشباعها؛ مما يثير غضبه وحنقه على الوالدين كثيرًا؛ لأنهما لا يلبيان رغباته على نحو فوري كما يريد.
هذه النزعة المتمركزة حول الذات هي التي تدفع إلى الرغبة في الإشباع السريع وتحقيق كل رغباته بدون النظر إلى الاعتبارات الأخرى التي لم تدخل بعد في مجاله الإدراكي والمعرفي. إذن فالتمركز حول الذات ورغباتها هو القاعدة التي يتصرف على أساسها طفل ما قبل المدرسة. ولذا فهو يرضى بقدر ما يحقق له الوالدان من الرغبات، ويسخط بالقدر الذي لا تتحقق به هذه الرغبات وهو المناخ الذي يمكن أن تنمو يه مشاعر الغيرة. فالطفل يشعر بالرضا طالما هو يحصل على ما يريد، بينما يشعر بالسخط والضيق إذا حُرم مما كان يحصل عليه وحصل عليه شخص آخر.
وبقدر ما يكون الفقد يكون الشعور بالغيرة. وعادة ما تُكشف مشاعر الغيرة عندما يقف الطفل في موقف يعاني فيه الحرمان أو انسحاب الاهتمام وفقدانه بعد التمتع به، أو عندما يلاحظ ما يتمتع به الآخرون دونه، وقد يغذي الآباء شعور الطفل بالغيرة إذا ما بادروا بعقاب الطفل عندما يعبر عن غيرته بسلوك لا يقبلونه؛ ما يزيد من اشتعال نار الغيرة في قلبه.

فالقاعدة في الشعور بالغيرة بالغيرة هي فقدان الطفل لامتياز كان يحصل عليه، وكلما زاد حجم الفقد زادت حدة الشعور بالغيرة. فما هي المواقف التي يمكن أن تثير غيرة الطفل في مرحلة ما قبل المدرسة؟ يمكن أن نشير إلى أهم هذه المواقف كالتالي:
"  الموقف النموذجي والنمطي لشعور الطفل بالغيرة، وهو مولد الطفل التالي له في الترتيب. فبينما كان الطفل متمتعًا بمعظم اهتمام الأم ورعايتها فإنه يفاجأ بانسحاب هذا الاهتمام فجأة ومرة واحدة إلى أخيه الوليد الجديد، فيشعر بالغيرة الشديدة نحو هذا الوليد الذي اغتصب حقه في اهتمام الأم، كما يشعر بالحنق على الأم "التي غدرت به". وإذا عبر عن غيرته نحو أخيه بمحاولة مضايقته أو إيذائه في غيبة الأم؛ لأنها تنتسب إلى عالم الكبار الأقوياء، ولأنها ما زالت مصدر الرعاية له.
"  ليس بالضرورة أن تثور غيرة الطفل نحو أخيه الأصغر، بل قد تتجه غيرة الطفل نحو أخيه الأكبر، وذلك إذا وجد أنه يحصل على حقوق وامتيازات لا يحصل هو عليها.
"  في بعض الحالات تتجه غيرة الطفل ليس نحو أخيه، ولكن نحو أبيه، وهو مضمون فرويد إمام التحليل النفسي، حيث يرى أن الطفل يشعر بمشاعر الغيرة من والده حين يرى أنه يحصل على اهتمام ورعاية من الأم، في حين أنه يرى أمه ملكًا خاصًا له، واهتمامها ينبغي أن يكون مقصورًا عليه. وقد تتأكد مشاعر الغيرة عند الطفل نحو الوالد إذا ما لاحظ أن هناك علاقة خاصة بين الوالدين هو مستبعد فيها. ومن المواقف التي تظهر هذا النوع من الغيرة الحالات التي يغيب فيها الوالد لفترات يستأثر فيها الطفل بالأم، فإذا ما عاد الوالد أعطت الأم قدرًا كبيرًا من اهتمامها له، وهو الموقف الذي يدركه الابن كفقد حق له اغتصبه الوالد.
"  يمكن أن تكون علاقة الأخوة بعضهم ببعض قائمة على الحب والتعاون، كما يمكن أن تكون قائمة على التنافس والصراع، وهذا يتوقف على معاملة الوالدين لأبنائهما. فالأصل أن الأخوة يحبون بعضهم بعضًا في ظل المعاملة الوالدية الحانية للجميع بدون تفرقة أو تميز، ولكن إذا ما عمد الوالدان أحدهما أو كلاهما إلى التمييز والتفرقة بين الأبناء فإن الآخرين يشعرون بالغيرة من أخيهم المفضل.
"   ليست التفرقة بين الأبناء هي الأخطاء الوالدية الوحيدة في التنشئة، بل إن الآباء قد يخطئون خطأ آخر، وهو المقارنة بين الأبناء. وهم قد يفعلون ذلك لزيادة الدافعية عند الأبناء أو لتحميسهم وليكون أداؤهم الدراسي والسلوكي كله عند مستوى مرتفع. ولكن هذه المقارنة تكون مثيرة لغيرة بعض الأبناء ممن لا تكون المقارنة في صالحهم، وهي مقارنة تغفل الفروق الفردية بين الأبناء واختلاف قدراتهم وإمكانياتهم، وهو أمر ليس للأطفال دخل أو مسئولية فيه.
"  هناك أطفال لهم وضعية خاصة تجعلهم عرضة للشعور بالغيرة مثل الطفل الوحيد. فقد يبدو أن هذا الطفل لن يحرم من شيء، وأن الوالدين يلبيان كل ما يطلبه، وهذا صحيح، ولكن هذه التلبية السريعة والكاملة لرغباته هي التي تجعله لا يتحمل الحرمان، ولا يعوَّده أن يتساوى مع الآخرين في الخضوع للنظام والقاعدة. فمشكلة هذا الطفل مع الغيرة أنها لا تظهر في المنزل، ولكنها تظهر في روضة الأطفال، عندما يُعامَل كما يُعامَل بقية الأطفال، ويجد أن المعلمة توجه اهتمامها إلى كل الأطفال بالتساوي، بل قد توجه المعلمة المزيد من الاهتمام والمديح للطفل المتميز تحصيليًا أو سلوكيًا، فيشعر بالغيرة والحنق على زميله المتفوق.
"  كذلك قد يتعرض الطفل الأخير في الأسرة إلى الشعور بالغيرة، فهو مثله مثل الطفل الوحيد يحصل على الكثير من الأسرة، ويتعود على نمط من المعاملة لن يجده بين أقرانه في الجيرة أو في المدرسة. فالطفل الأخير طفل تعود على الأخذ والتلقي، ولم يتعود على العطاء، والتنازل للآخرين، وهذا النمط من التعامل لن يجده في مكان آخر خارج الأسرة؛ مما يوقعه في مواقف يكون مطالبًا فيها بالأخذ والعطاء، مما يعجز عنه ويشعره بالفشل، وما يترتب عليه من مشاعر الغيرة.

المصدر: " مجلة خطوة العدد 18 - ديسمبر 2002 " أ. د. علاء الدين كفافي- أستاذ الصحة النفسية والإرشاد النفسي بمعهد الدراسات والبحوث التربوية - جامعة القاهرة

ساحة النقاش

هدى علي الانشاصي

alenshasy
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

10,284,837