هل كان فرعون يستحق هذا المصير المفجع ؟؟!!
<!-- / icon and title --><!-- message -->
(قصة فرعون)
نموذج المأساة ( التراجيديا ) السوداء
( الشخصية والقومية )
البداية :
عن ابن عباس قال :" إن فرعون رأى فى منامه ، كأن نارا قد أقبلت من نحو بيت المقدس ، فأحرقت دور مصر وجميع القبط ولم تضر بنى إسرائيل 0 فلما استيقظ هاله ذلك ، فجمع الكهنة والحذقة والسحرة ، وسألهم عن ذلك ، فقالوا : هذا غلام يولد من هؤلاء ، ويكون سبب هلاك أهل مصر على يديه ، فلهذا أمر بقتل الغلمان وترك النسوان" [ رواه ابن كثير فى "قصص الأنبياء" ، ورواه الطبري فى " تاريخه " 1 /388 ، وأورده الحافظ فى " الفتح " 6/ 487] ،
مشهد مثير مشوق مدهش جذاب ، مخيف ومقلق ومروع ويبعث على الشفقة والعطف والخوف ﭽ {وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ }الزخرف51 ] لشخصية كبيرة عظيمة فى مكانتها يحكم شعبا عظيما كبيرا ، له حاجة نبيلة يريد أن يحصل عليها ، وهى أن يحتاط لنفسه ولشعبه مما يهدد حياته وحياتهم ؛ لأنه رأى حلما يهدد حياته وحياة شعبه وأيضا تواتر إلى مسامعه من حاشيته ووزرائه أن بنى إسرائيل الذين يعيشون فى ملكه وهم ليسوا من شعبه ، يتدارسون ويتواصون ويتناقلون فيما بينهم من أن واحدا منهم سيولد وسيكون زوال ملكه ومملكته على يديه ، فيعمل على تجنب تحقيق هذه النبوءة ، بأن يحتاط كل الحيطة ألا يخرج هذا الغلام حتى لا يزول ملكه ولا يهلك على يديه ويفجع فى حياته وحياة شعبه ،
وهذا هدفه العظيم ، إنه يريد أن يجنب نفسه وشعبه من مصير مؤلم مهلك محتوم ، ويصارع الذين يهددون حياته وسعادته ، وهذا ما يحملنا نحن على التعاطف والخوف والشفقة والمؤازرة عليه والاحترام والتقدير ؛ لأنه يدافع عما يتهدد حياته لأننا نوافقه على نبل الهدف وعظيم الحاجة.
{إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ }القصص 4] ولكنه يتجبر ويطغى ويظلم ويفسد ، يقتل ولدان بنى إسرائيل من الذكور ، ويستعبد ويستخدم رجالهم فى أحط الأعمال وأردئها ، ويستبيح شرف نسائهم 0
وهذا ذنب كبير يرتكبه يقطع بداخلنا نحن الشفقة والعطف والخوف والمؤازرة له ، لأنه يصير مذنبا
ويحول دفة المشاعر لدينا نحو الطرف الآخر الذى يقع عليه الظلم من الذنب والجرم الذى يوقعه بهم ، ويبعث على الشفقة والعطف والخوف على الذين يصارعهم ويتفوق عليهم ويفعل بهم الأفاعيل ، ويواصله بدون رحمة ولا عدل ولا خوف ، مستخدما كل قواه الجبارة التى يمتلكها ، مما تساعده على التجبر والطغيان إلى أبعد الحدود ، لأن الطرف الآخر يعجز عن مواجهته والصراع معه ، وهذا الظلم الكبير والفساد العظيم والاضطهاد الفادح لقوة ضعيفة لا تقوى على صد هذا الطغيان ، حتى تتدخل القوة العليا - التى هي الله العادل القوى العالم بكل شيء - بإرادتها وسطوتها وقوتها تريد أن تنتصر لهؤلاء المستضعفين المظلومين ، وتقرر ذلك وتكتبه فى علمها الغيبي عن كل الخلائق ،
ولا يعرف فرعون ما قدرته القوة العليا من الوقوف له وتحديه وفرض سلطانها عليه لتنتصر لهؤلاء ، وتجعلهم أسيادا وأقوياء يمتلكون زمام أنفسهم وحريتهم ويرثون هذا الجبار الطاغية ، يرثون ملكه ومملكته وتكون لهم الكلمة العليا فيها ، وفرعون لا يعرف ذلك لأنه فى الغيب الذى لا يستطيع أن يعرفه إنسان ، ولكن الله يكشفه لنا ويبسطه ، يريد أن ينتصر للمستضعفين ،
ولم يفرض الله ويكتب ويقرر أن يفجع فرعون وقومه بعد ،
لأنه لم يرسل لهم نبيا بعد ،
ولعدل القوة العليا -الله- لم يقرر عليهم النهاية المأساوية إلا بعد إقامة الحجة والدليل عليهم نتاج فعلهم بعد علمهم من خلال رسوله الكريم الذى سيرسله لهم .
وفرعون لا يعرف أنه يعاند القوة العليا التى تسطر وتكتب ذلك ويتحدى مشيئتها ، وهذا ظلم عظيم ، وذنب كبير ، وخطيئة عظمى ، ولكنه لا يعرف ذلك لأنه لا يعرف أن للكون إلها خالقا عظيما مسيطرا سيريه هو ووزير أمنه هامان وجنودهما الذين يعملون بأمر منه ، ويحتاطون كل الحيطة ألا يخرج هذا الغلام 000
الابتلاء
يبتليه فى أسباب قوته وسلطانه وتفوقه ، وأدوات نجاحه وغلبته ومنعته وسيطرته تريه كيف سيولد هذا الغلام وهم الذين سينقذونه من موت محقق ، وفرعون نفسه هو الذى سيربيه بين يديه وفى قصره ، ويولد الغلام ومن خوف أمه عليه - بوحى من القوة العليا - تلقيه فى النيل ، ويلتقطه جنود فرعون ويتأكدون أنه ولد ولم يذبحوه مع أن لديهم الأمر ، ولكن يهرعون به إلى فرعون الذى يريد أن يذبحه ،
ولكن تسخر منه القوة العليا ، وتجعل أحب الناس له زوجته تتدخل فى الوقت المناسب ، تحبه وتقسم عليه ألا يذبحه ، فيطيعها ، ولكنه يحتاط للنبوءة والحلم ويعمل على تحدى فحواها ، فيمتحن الغلام بأن يقدم له تمرة وجمرة ، فيختار الغلام الجمرة ، فيتأكد فرعون لغبائه الكبير ، وتسخر منه القوة العليا حيث يستنتج أن هذا الغلام ليس محفوفا بعناية ما أو قوة ما كبرى وإلا ما تركته يختار الجمرة التى لسعته فى لسانه لسعا شديدا ، وأن هذا الغلام ليس جل اهتمام ورعاية وبطولة النبوءة والتواصى بين بنى إسرائيل ، ولذلك يتركه لزوجته تربيه فى قصره ، وهو خطأ كبير وغباء منه ومن جنده ؛ لأن هذا الغلام موسى هو من سيهلكون على يديه وبسببه ،
والابتلاء هنا يغير مجرى الفعل وينسجه باتجاه آخر ، حيث تنصرف حاجة فرعون عن الغلام المطلوب إلى البحث عن غيره 0 بمعنى أنه يذهب فى أى طريق يبعده كل البعد عن حاجته وهدفه الذى هو بين يديه بالفعل لأن الغلام المطلوب هو يربيه فى قصره وأمام عينيه ، وتكتمل السخرية من الله له ويكشف له غباءه الشديد ، حتى بدأ يعرف بعد فوات الأوان أن من يربيه فى بيته هو عدوه ، وصار يبحث عنه ، ولكنه قد هرب من مملكته وسلطانه إلى بلد ليس له عليها سلطان ولا ولاية لا هو ولا جنده ، وهو الذى يريد أن يذبحه ، حتى عاد إليه بعد عشر سنين يريد مقابلته ، فيأذن له بلقائه ،
ومع ذلك يقابله ويتأكد أنه هو من يبحث عنه وأنه عدوه ، ولم يذبحه ، بل يلومه بعطف وود ولين ويسمع له ويعرف فرعون القوة العليا وحقيقتها لأول مرة ، التى ترسل له موسى ليحذره وينبهه ويعرفه ما يتوجب عليه فعله ، وما يتوجب عليه تركه ، ولكن فرعون بعد أن عرف القوة العليا ، يتحدى مشيئتها ، ويعاندها ويخالفها ولا يطيعها ،
ويسير فى طريق محفوف بالمخاطر دون أن نخاف عليه ، لأنه يقبل تحدى القوة العليا التى تحذره وأرسلت له نبيا كريما يهديه ويعلمه ويبين له الطريقين ، ولكنه يعاند ويتحدى ، وهى تمهله وتمد له فى التسامح مدا ، ولكى تقيم الحجة عليه تمتحنه كباقي البشر فيأتي 000
الزلة
وهو قاصد وعامد ومتعمد يقتل الذين يؤمنون بالله ، ويؤمنون بنبيه موسى الذى جاء ليهديه يعرفه الطريق المستقيم ، وأنه ليس إلها يعبد ، لأن العبادة لله وحده ، فلم يرتدع فرعون وأقدم على ارتكاب الذنب تلو الذنب ، وحق عليه العقاب ، وتأكد عليه عناده وصلفه وغروره وتحديه للقوة العليا وعصيانها ، بل ويستعدى عليها ما هم تحت إمرته فيضلهم ويجعلهم معاندين غير طائعين مثله ، مما يستوجب عليهم العقاب أيضا ،
وهم الذين يسيرون نحو مصيرهم الذى بأيديهم يصير محتوما ،
ولكن الله يبصرهم وينتظر عليهم ويرسل لهم الآيات والمعجزات والبلاء العظيم حتى يفكروا ويرجعوا ويؤمنوا حتى يواجه التعقيد الشديد هو وقومه 000
العقدة
يلقى من المحن ومن التعقيد الشديد ، الذى هو فى حقيقة الأمر رحمة له ، عله يرجع عن غيه وعناده وتكبره وذنوبه ، فتنغلق أمامه جميع الأبواب ، وجميع الحلول ، وتلجئه وهو الذى يدعى الألوهية والقوة التى لا تقاوم ولا تصارع ولا ترد ، تلجئه القوة العليا التى هى الله القوة الحقة والإله الواحد القهار ، يلجئه إليه مجبرا ، عساه يتعرف ويؤمن ويطيع ، حتى تذل عنقه وتكسر كبرياءه ، ولا يجد مفرا ولا مخرجا لما هو فيه من تعقيد إلا بلجوئه للقوة العليا ، ومع ذلك بما تبقى له من كبرياء يود المحافظة عليه ، وعناد لم يتخل عنه بالكلية يطلب من قومه ومساعديه أنهم هم الذين يطلبون هذا العون وهذا المدد وهذا اللجوء الحتمى المطلوب ،
ولا تبخل عليه القوة العليا بكرمها وإنصافها واستجابتها وتحدث 000
الانفراجة
يفرج عنه الله ما هو فيه ليسخر منه ، ويؤكد عليه عصيانه وعناده وكفره ، تفرج عنه ما هو فيه من محن وتعقيد صعب ، ولكنه يعاود التكبر والغرور والعناد والتحدي ، ما يجتاز العقبة التى يواجهها ، ولا يلبى ما هو مطلوب منه ، وهو ليس الذى يتخطاها بإرادته ولا بأدواته ولا بقوته ، بل بإعانة القوة العليا وأمرها وإرادتها التى تظهرها له بوضوح وجلاء على يدي نبيها الذى أرسلت له وبين ظهرانيه ، ويلجأ إليه مضحيا بكبريائه ومنزلته ورفعته وألوهيته ، وما إن تساعده القوة العليا التى تظهر وتوضح له مقدرتها وسطوتها بأفعال يراها رؤيا العين وسمع الإذن وتؤثر فيه وفى قومه ، ويرفل الجميع فى تعب وإجهاد وعناء بسببها , حتى يعاود غروره وصلفه وعناده وتحديه ، وهى تصطبر عليه وتمد له فى حبال الرحمة مدا ، وأواصر الغفران تواصلا ، وجسور الرأفة جسورا ، فلا يرتدع بل ويضل آخرين يتبعونه ، ويجعلهم يعاندون القوة العليا التى لتوها أرتهم قدرتها وسطوتها ومقدرتها ، ورحمتها وغفرانها ، غير مستمع لنصح ناصح ، ولا مرتدع لردع رادع حتى يحدث 000
التعرف
هو الذى يسير نحو هلاكه ويخرج يتبع مصارعيه الذين لا ينوون التواصل معه ، يحققون له هدفه بدون أن يكلفوه شيئا ، ومع ذلك هو الذى يخرج يتبعهم ، بغواية وتحريض من قومه وبطانته وثقته وتكبره ، ويصبح التحدى من الجميع ، ويقبل الطرف المصارع هذا التحدي حيث توحي له القوة العليا بقبول التحدي والعناد والتصارع لأنه بإرادتها أهل له ، ويتعرف فرعون على مقدرة وإرادة القوة العليا تمام التعرف ، ولكنه يقدم على ارتكاب الذنب الكبير مرة أخرى ويتحدى مشيئة القوة العليا التى يؤمن بها نفر من فريقه ، الذى أنزل بهم العقاب وصلبهم وقتلهم ،
وتؤكد عليه عناده وكفره وزلاته التى يفعلها بإرادته وكامل وعيه وعلمه ونيته وعزمه ، وهو يعرف من سيقع عليه الفعل ويعرف حقيقتهم ، ومع ذلك يقوم بتمام الفعل فتحق عليه القوة العليا العقاب المستوجب وتقرر أن تفجعه فى حياته وتكون 000
النهاية
حيث يوحى الله لموسى أن يخرج ببني إسرائيل باتجاه الأرض المقدسة ، ولكن فرعون لغبائه وتكبره يستغل ما يحدث من تحرك بنى إسرائيل وخروجهم من مملكته ، ولكنه يشعر بالإهانة من أن هؤلاء الذين يستعبدهم , وأمرهم وحريتهم بيديه يريدون أن يخرجوا عليه ، فيذهب يجمع الجند من كل المدن لكي يرد ويردع هؤلاء الشرذمة القليلين الذين يعظونه من أن نبيهم قد أذله وحطم ألوهيته وقدسيته ، وأظهر له عجزه أمام رعيته وقومه وبعثر كرامته وكسر سلطانه وهز عقيدته ، فيخرج بجنده يتبعهم ، وهو يريد أن يحصل على حاجته ويحقق هدفه بالقضاء على مصارعيه هؤلاء الشرذمة القليلين ، يسير نحو هلاكه بيديه وإرادته ورعونته وتحديه ، ويشعر أنه يستطيع أن يحصل على حاجته ، ويحقق هدفه الذى ليس بينه وبينه مسافة ، ويوقن أنه محقق لا محالة ،
يتقدم وليس لديه أدنى نية أن يفجع فى حياته على الإطلاق
بل يعمل على المحافظة علي حاجته غير عابئ بما أجرم ، يظن أن بوسعه الهروب من العقاب المستوجب عليه ، وأن بوسعه مواصلة تحدى مشيئة القوة العليا وعصيانها إلى آخر مدى , حتى يواجه مواجهة حقة مباشرة مع مشيئتها وفرضها وقدرتها وسطوتها وأمرها وقضائها وقدرها ، فلا يستطيع المقاومة ولا التحدي ولا الانتصار لنفسه حيث تفجعه فى حياته وتقضى عليها تماما ، ليكون عبرة وعظة لمن بعده .
أنه ليس بوسع إنسان أن يصارع ويعاند ويتحدى القوة العليا ، ومن يفعل ذلك فلا ينتظر غير هذا المصير المؤلم المحزن المحتوم الذى يستحق 0
ويتبدى عظم المأساة الحقة العظيمة من لا يعاند القوة العليا ولا يتحدى مشيئتها ، ومع ذلك يفجع فى حياته ( تراجيديا إلهية ) ، أو لينال رضاها ويفجع فى حياته ( تراجيديا عظيمة )
بينما فرعون يمثل بطل التراجيديا السوداء
من كتابى : أسس وقواعد الدراما من القرآن الكريم
الفصل العاشر صفحة293 أصل تعريف التراجيديا السوداء
ساحة النقاش