التراجيديا الإلهية
أو المأساة الإهية
قلنا أن هنالك بلوى صغرى وهى السبب حجر الأساس ، وبلية كبرى وهى النتيجة. والبلوى الصغرى هى مجرد امتحان وابتلاء ولكنها تحصل للجميع بدون تفرقة ، وفيها يفقد الإنسان إما أسباب سعادته أو أدوات قوته ، وهو امتحان عظيم إما ينجح فيه وإما يسقط ، لتقف القوة العليا على حقيقة هذا الشخص وتضع مشيئتها وقدرها عليه .
البلوى الصغرى تعنى الألم الشديد والمعاناة العظيمة والحزن الكبير الذى لا يستطيع كائن من كان رده أو منعه أو عناده أو مقاومته أو الوقوف ضد مشيئته ، وينتج من الابتلاء المفروض من الله على جميع الناس ، والعناد فيه لا يفيد ، والصراع من أجله لا يجدي وتحديه مستحيل ؛ لأنه من الله الذى خلق الموت والحياة ؛ ليختبر الناس أيهم يعمل خيرا ويخلصه ، وهو العزيز الذي لا يعجزه شيء ، الغفور لمن يتوب منهم ويتمسك بطاعته . وليس بوسع أحد أن يهرب من هذا الاختبار لأنه واقع به ومتحقق لا محالة ؛ حتى لا يظن الناس أن بوسعهم أن يقولوا آمنا دون امتحان واختبار لقولهم هذا ، ولكن الابتلاء أو الاختبار هذا لا يفقد فيه الإنسان حياته ، ولكن النجاح فيه ليس صعبا مع أنه مكلف تكلفة كبيرة يخسر فيه الإنسان إما أسباب سعادته وإما أدوات قوته ، والتى بإيمان وصبر وجهد وعزيمة وتمسك بطاعة الله ، وطلب المعاونة منه تعالى يستطيع أن يستعيد أسباب سعادته ، أو أدوات قوته ويواصل حياته نحو السعادة حتى منتهاه .ويتجلى الصراع ليس فى صد ما يتهدد بعض سعادته أو بعض أسباب قوته ، ولكن الصراع النبيل يتجلى فى الكيفية التى تجعله ينجح فى تحمل آثار البلوى وكيفية الخروج منها نحو اكتساب واستعادة أسباب سعادته وأدوات قوته دون أن يخطئ الخطأ الكبير العظيم بنية وتعمد مما يحمله على عدم الرجوع ويلتزم جادة الصواب من طريق مستقيم غير معاند للقوة العليا ولا متحد لمشيئتها ، ويظل الأمل فى النجاح والنجاة معقودا على قمة المحاربة والانتصار والتفوق ألا يخالفها ولا يتحدى مشيئتها .
ومع ذلك تحصل الطامة الكبرى ، والبلية العظيمة ، والخسارة الجسيمة ، والفاجعة المهولة ، لهذا الإنسان الفاضل النبيل المؤمن المطيع الذى هو القوة الأضعف تفعل المستحيل من أجل رضى وطاعة القوة العليا وعدم مخالفتها ولا الصراع معها ولا الخروج عليها ولا عنادها ولا تحدى مشيئتها ، وهو الذى يسير فى الطريق الشاق المحفوف بالأمان من القوة العليا . والمحفوف بالمخاطر المهولة والأشواك العظيمة والموانع الكبرى من الشيطان ومن أعوانه من الإنس الذين يصارعونه ويعارضونه يسير بكل ثقة وعناد وصبر وعزيمة قوية وعمل مخلص ومقاومة عظيمة ، وتحد كبير وصراع مرير من أجل ألا يتصادم أو يخالف أو يصارع أو يعاند القوة العليا التى هى الله ، لينجو من عقابها وغضبها ويكسب رضاها ويفوز بجائزتها الكبرى ، مستعدا فى ذلك أن يدفع عمره موافقا أن يفجع فى حياته على ألا يخالف هذه القوة العليا مهما حدث ، والتى لا تتركه يفعل ذلك دون أن تختبره اختبارا عظيما وشاقا ومكلفا مفروضا عليها ، لتعرف المطيعة من العاصية ، المحسنة من المسيئة من تستحق الثواب ممن تستحق العقاب ، من تستحق السعادة ممن تستحق الحزن ، من تستحق النجاح ممن تستحق السقوط ، من تستحق الرضي ممن تستحق الغضب - امتحان لا يستطيع تحمله إلا من كان صادق العزم شديد الطاعة قوى الإيمان يستحق أن يكون بطلا ، فيتحمل الاختبار ويدخل فى غماره متحملا كل نتائجه مستعينا بالقوة العليا على نفسها وفرضها ، يبذل فى سبيل ذلك تمام البذل ، متسلحا بالصبر والعزيمة الفولاذية ، مصمما على النجاح الذى يتجلى فى عدم التذمر أو التمرد أو العناد أو التحدي ولا العصيان للقوة العليا ، ويستطيع أن يقاوم ويبذل عظيم الجهد والعرق ، ويستعيد أسباب قوته وأدوات نجاحه بدون عصيان القوة الكبرى التى تغفر له غلطة قد يفعلها بغير معرفة ولا قصد ولا عمد ويرفل بسببها فى معاناة كبيرة يحاسب نفسه حتى يكتشف خطأه فيسارع بالتوبة والتذلل بطلب الصفح والغفران حال اكتشافه أنه فى سبيل رضى الله أخطأ، وهو الذى يجاهد من أجل عدم عصيانها وكسب عداوتها ونيل عقابها الشديد الذى يعرف أنه لا قبل له على تحمله ، ويظل يقاوم عداوة الشيطان الذى يشده نحو المعصية ، ويصارع شهوات نفسه ومطامعها وغرائزها وتمردها وتكبرها ، ويصد كل من يحاول استمالته نحو المعصية بقوى الإغراء والفساد والمكانة والمال ، ويحدوه أمل أن ينجح ويتفوق ويتغلب على كل من يصارعه ويقف فى طريقه ويحاول أن يدخله أتون عصيانها والتصادم معها ويصده عن كسب رضاها والفوز بجائزتها ووعدها ونعيمها غير مخالف لمشيئتها التى لا يعرفها ، غير مستحق غضبها وانتقامها ، ويصارع ويجابه ويحارب حتى ولو فقد نعيم الدنيا وسعادتها ، ببلية عظيمة وفاجعة كبرى من قوى الشر التى لا تبقى عليه ولا تذر ، تتغلب عليه وتنهى حياته التى لا يندم على فقدانها وخسارتها لأنه ضحى بها ولم يخالف القوة العليا التى وعدته بالنعيم المقيم والجزاء العظيم .
يتجلى عظمها ونبل بطلها أن ما اختاره من طريق ليس قدرا محتما عليه ، لا مهرب ولا مفر منه مجبرا أن يسير فيه حتى النهاية ، بل هو اختيار بإرادة حرة كاملة ، لأنه بوسعه أن يختار غير ذلك .
إن هذه المأساة من الممكن أن تقع لعموم الناس الذين تنتهى حياتهم بفاجعة دو أن يكون لديهم ثمة ميل أو إصرار أو عزيمة للفجيعة فيها ، ولكن فرضت عليهم هذه النهاية بقضاء الله وقدره الذى هو من الغيب الذى لم يطلع عليه أحد من البشر .
من كتابى أسس وقواعد الدراما من القرآن الكريم
ساحة النقاش