تعريف وأسس التراجيديا السوداء
البداية – الابتلاء – الزلة – العقدة – الانفراجة – التعرف - النهاية
البداية
البداية تكون بمشاهد مثيرة جذابة مفرحة مبهجة ، توضح وتكشف عن شخصية البطل ذى المكانة الاجتماعية الكبيرة والوجيهة والعظيمة ، والنجاح الباهر الذى يحققه فى عمله ومكانته ، والتى تظهر إلى أى درجة من السعادة والنجاح يصل إليها ويعيش فيها يتمتع بها ، فى جو عائلى مشبع بالسعادة والرخاء وشهوة الاكتناز والمحافظة على هذا المستوى الذى يعيشون فيه وقد حققه ، ويريد أن يحافظ عليه ، ويبتغى طرقا جديدة للنجاح والتفوق على حساب أى قيمة ، غير مدقق فى هذه الطرق ، مبتعدا بقدر علمه عما يكون فيها مما يشوبها أو يشينها ، ولكن عند الحاجة الماسة يساوم ويقبل بما يراه فيه بعض الشوائب ، مبررا لنفسه الوسيلة من أجل عظم الغاية ، مما تمكنه من خلق أدوات مهما كانت تعينه على النجاح ومواصلته ، محافظا على سعادته يضحى فى سبيل ذلك بقيم وأخلاق ونبل ، متغلبا على أى مصارعين أو معترضين أو مجابهين يقفون فى طريقه , حتى ولو كانوا من النبلاء الأفاضل يتغلب عليهم بكل السبل النبيلة والمتدنية والدنيئة ، مستعملا كل أدوات قوته من العلم والخبرة والحنكة والمراوغة والدهاء والمكر والحيلة ، يكسب بهم ويتفوق ويصل إلى مراحل كبرى من النجاح والسعادة ، مخلفا الشقاء لغيره من المجابهين والمصارعين 0
الابتلاء
سبق تناوله من عدة أوجه فى مواضع متفرقة ، ولنا هنا مسلك آخر يضيف إلى تفاسيره وتوضيحه على محمل اليسر والسهولة ، كما درجنا فى أمثالنا وعرفنا وصار من البديهيات الصالحة المسلم بها [ أن الرجل موقف ] بمعنى فى الموقف الصعب المأزوم المعقد هو ما يظهر ويستوضح بجلاء معدن الإنسان من عدمه ، إن كان الرجل يستحق لقب الرجولة من عدمه ، لبطولته وفدائه وإقدامه وحسمه ومشاركته ، وعدم تخاذله أو هروبه أو تقاعسه ، فى نصرة المأزوم صاحب الموقف الجلل ، أم يكون رجلا بالاسم ولكن حقيقته تنتفي منها سمات الرجولة والتي بدورها تسحب من رصيد النبل والعظم والشهامة والمروءة ، ويصير إلى عكسها من الانتقاص الذى يضيع كل رصيده من احترام وتوقير الناس والمجتمع له .
ما سبق يقدم تعريفا سهلا وتفسيرا ميسرا للابتلاء الذى هو فرض من الله على الناس جميعا .
من الابتلاء يعرف الله وهو العليم وعلمه مسبق بكل شيء ، ولكن ليقيم الحجة والدليل والبرهان على شخص المبتلى بما أنجز فيه سواء بالطاعة والصبر والعزيمة ، وكان مصارعا ومجاهدا وباذلا بذلا شديدا وقويا وسديدا بعدم الخروج عن طاعة القوة العليا متمسكا بالإيمان غير معاند لها مصمما على النجاح ، فيسعده ويفرحه ويكافئه0 وهنا بطل المأساة السوداء لم يتحمل البلوى ولم يصبر وجاهر بالمعصية معلنا الخروج عن طاعة القوة العليا ، متحديا لمشيئتها وفرضها ، أى كشف عن نفسه معدنه أنه لا يستحق لقب الإنسان النبيل المؤمن المحتسب الصابر الطائع ، معلنا تحديها ومخالفتها ، عاملا على كسب سخطها ووعيدها ، غير معترف بقوتها وقدرتها وسطوتها وعدلها ، غير ملتجئ لها طالبا عونها ومساعدتها على تجاوز ما يواجهه من محنة أو بلوى تصيبه ، هو يعلم ويعرف ويؤمن أنه حال الصبر والطاعة للقوة العليا ، يكسب رضاها ومساعدتها ومؤازرتها ، وكذلك يكسب تعاطفنا وشفقتنا وعطفنا ومؤازرتنا وتضرعنا نحن معه للقوة العليا من أجله ، ولكنه يعاند ويتحدى مشيئتها ويجاهر بالمعصية ويقبل يرتكب الخطيئة عامدا متعمدا ، وهو بذلك يكشف عن معدنه الحقيقى ، من أنه لا يستحق المؤازرة ولا الشفقة ولا العطف ولا التضرع ولا الرحمة لأنه معاند ومذنب وعاص ، وهو الذى يستوجب على نفسه العقاب ويستدعى الفاجعة من القوة العليا التى ستنزل عقابها وسخطها عليه لا محالة مهما فعل ومهما هرب ومهما جاهد ، قاطعا الشفقة بداخلنا نحن له ، لأنه ارتكب الخطيئة أو الجريمة أو الذنب وهو عامد متعمد ظنا منه أن شخصا ما يعرفه هو الذى كان السبب لخسارته أو لفقدانه أدوات قوته وأسباب نجاحه ، يتوق إلى الانتقام والتشفي غير متحل بالصبر الجميل ولا العقل الرشيد والروية المستوجبة التى تظهر معدنه الحقيقى ، ولذلك أوجب على نفسه العقاب الذى يعمل على التهرب منه بشتى الطرق ، وهو يحاول أن يراوغ ويفلت من الاستحقاق المستوجب عليه الذى استدعاه بفعله وعمله ، وينجح فى المراوغة والتهرب ويحاول أن يستعيد خسارته ، ويعاود النجاح ، ويستطيع أن يعاود تحصيل حاجته والعمل على تحقيق هدفه ، مستخدما كل الأدوات المشروعة وغير المشروعة ، ويواصل العناد والتحدي للقوة العليا التى تمهله وتمد له فى غيه مدا ، حتى يشعر بالنجاح ويظن أنه باستطاعته الإفلات من العقاب حتى تتعقد أمامه الحلول ، ومع ذلك يستطيع أن يسبر أغوار ما يقابله من عقبات ، وينتشي ولكنه يشعر أن حياته لا تزال مهددة بالمخاطر من جراء الذنب الذى ارتكبه واستطاع الإفلات منه ، معتمدا على أشخاص يمدونه بالمساعدة ويجابهون معه مستفيدين منه أو مؤجرين له ، يساعدونه فى كيفية تخطى الجريمة التى ارتكبها تهدد سعادته وحياته ويبعدون عنه هذا الخطر الجاثم على نفسه ، ولكن القوة العليا تسخر منه ، ومن يتقدم إليه يساعده وينجيه من الخطر والعقاب المستوجب عليه ، يشعر بحساباته وتفكيره القاصر وعلمه الناقص أن الشخص الذى جاء يساعده جاء يهدده لأنه العارف بجريمته ، فيلتبس عليه الأمر ويتقدم يقتله ويتخلص منه ، ولكنه يكتشف بعد فوات الأوان حقيقة هذا الشخص الذى أوقع به ، من أنه جاءه بما يبعد عنه ما يهدد حياته ويساعده تمام المساعدة ، ولكنه أوقع به وهو لا يدرى ، حينها يشعر بالخسارة الكبيرة والندم العظيم الذى لم يعد يجدي ولا ينفع غير تأكيد الذنب عليه وتأكيد العقاب , والأنكى أنه يكون قد كشف عن نفسه أكثر مما تيسر على المجابهين له من الإمساك به لتوقيع العقاب الذى يستحق عليه ، ويكون العقاب بفقدانه حريته أمدا بعيدا أو بفقدانه حياته كلها بالشنق .
مشاهد بفعل من طامة كبرى أو بلية عظيمة تتسبب فى خسارته خسارة كبيرة ، ولا يستبين على وجه الدقة المتسبب فى هذه الخسارة التى تجلب من تداعياتها الحزن الشديد له ، مما تجعله لا يجيد التفكير السليم ولا التحلي بالصبر العظيم ، ويقبل أن يبحث عمن كان السبب فى خسارته التى لا يتحملها بما يتمتع به من المفترض قوة إيمانية من نبل وأخلاق ودين ، يسمع لشيطانه الذى يحمله على المكابرة والعناد والبحث بكل الطرق عن أسباب خسارته التى يجهلها ، فيندفع بكل قوة ينتقم ممن يظن فيه أنه السبب فى خسارته ، وهو قاصد وعامد الفتك بمن يظن فيه ، يدفعه العناد والتكبر وعدم الصبر على تحمل ما أصابه بعزم وجهد وقوة وغلبة ومنعة ، يرضى بما حدث له أنه ربما يكون امتحانا من الله يتوجب عليه تحمله واللجوء إليه يطلب منه رفع الغمة وتخليصه من البلية ، باستعادة بعض أسباب قوته وأدوات نجاحه حتى يستطيع أن يواصل طريقه ويتجاوز خسارته وطامته بخسارة أخرى وطامة جديدة وزلة عظيمة تزيد من خسارته وتستوجب عليه العقاب ، ولكنه لا يصبر ولا يستعين بالله على قضائه وقدره وبليته العظيمة يحمله عناده وغروره على التحدي والمقاومة والانتقام , ممن يظن فيهم سبب خسارته فيندفع إلى ارتكاب ...
الزلة
هى الذنب بقصد ، وهى الصنيع غير الحسن بسوء نية 0 وتأتى من الشخصية نفسها .
- مسميات الزلة وشروطها :
الجرم أو الذنب ، شرط القصد والنية ، ولذلك ليس لها عفو من الله برفعها عنه.
السقطة شرط تمام المعرفة وحسن التقدير.
- مسببات الزلة :
الاستعجال أو العجلة ُ لصنيع غير حسن و يكمل ما انتوى .
الاضطراب والقلق وشدة الوطأة وعدم الصبر.
ضيق النفس بسبب مواجهة المشكلات والعقبات الناتجة عن شدة الابتلاء.
التعنت أو العناد فى غير محله مما يحمل على الاستكبار.
التعب والإجهاد.
هى الخطيئة الكبرى التى يرتكبها وهو قاصد وعامد فيمن يظن فيهم أنهم سبب خسارته ، مما تقطع عليه أى خوف أو شفقة أو عطف أو مؤازرة له ، وكما يندفع فى طريق الانتقام ، ويسلك جميع الطرق من أجل استعادة أسباب قوته وأدوات نجاحه وسعادته ، ويجاهد فى سبيل ذلك جل المجاهدة مضحيا بأى قيمة يسلك كل الطرق مبررا لنفسه كل الوسائل وكل الأسلحة مما تسحب من رصيد احترامه وتنتقص من موضع إكباره ، متخطيا كل الموانع متغلبا عليها ، لا يمنعه مانع من دين أو أخلاق أو قيم ، متحملا كل ما يحدث له من ألم ومعاناة وصعاب تزيد من عناده وإصراره على ما يريد ، منتصرا مصمما على النجاح ، حتى يحققه ويستطيع رغم كل العقبات أن يحقق بعض أدوات قوته وأسباب سعادته ، والتى يشعر بقيمة نجاحه مما تزيده من شراهة العناد والتكبر ومواصلة السطوة والجبروت والانتقام والتغلب على كل من يقابله من مصارعين أو موانع بكل السبل الممكنة وغير الممكنة التى يبذل فيها مجهودا غير عادي حتى يحققها و لكنه يصل إلى...
العقــدة
بعد أن تشفىَّ البطل وانتصر لشره ، بمن توقع أنه سبب خسارته ، ويصير أمامه الطريق مفتوحا نحو استرداد مكسبه وحاجته ونجاحه ، يواصل طريقه إلى طريق فيه صعوبة كبيرة نتيجة بعض أخطائه التى ارتكبها ، مما تستوجب عليه العقاب الذى يريد أن يتهرب منه ، ويسلك كل الطرق فى سبيل ذلك ، ولا يلجأ إلى الله الذى يلجأ إليه الجميع ، ويحاول بنفسه مؤمنا بقدراته الذاتية على تخطى هذه العقدة باحثا لها عن حل فاتحا أمامه كل الاحتمالات ، باحثا عن كل الثغرات التى من الممكن أن ينفذ منها ، ويبحث عن معاونين يشتريهم بالمال ، ويغريهم بما ينتقصهم باستعاضتهم إياها0 ويستبشر بوادر الانفراجة التى تجعله يواصل طريقه متخطيا تلك العقبة الكبرى ، ولكن يتهدد هذا النجاح آخرين يترصدونه من المجابهين له ، يسبرون أغوار خطواته ويكشفون فعله ، ويجمعون الأدلة لتوريطه وإثبات الجريمة التى ارتكبها ، وهو الذى يحاول تعويض الخسارة والفكاك من الجريمة ، ومحاولة طمس معالمها ، أو أي خطوط من الممكن أن ينفذوا له منها – يحاول بكل الطرق والعزم ، وهو يعاند القوة العليا ويتحدى مشيئتها بالتهرب من حكمها الحتمي الذى تفرضه فرضا على الخارج على إرادتها ومشيئتها ، وهو يحاول أن يتحدى هذا المصير المحتم عليه لا محالة ، ويتبع أي طرق تنجيه منه ، فينزلق إلى طرق شتى أكثر مخالفة وخروجا وتحديا للقوة العليا ، وأكثر ذنبا ، فيقبل على الرشوة والمحسوبية وشراء الذمم ، وتضليل العدالة ، واقتراف مزيد من الجرائم ، حتى تحدث ...
الانفراجة
الانفراجة لا تكون إلا من الله القوة العليا – تفرج عنه ما هو فيه لتسخر منه ، وذلك يتحقق من خلال حادث أو حادثة تقع بالقرب منه تخصه ، أو واحد من المقربين له ، ابنه ، ابنته ، زوجته ، والده ، أمه ، أو لها ثمة علاقة وثيقة به ، أو بواحد من عائلته أو من المقربين له من الدرجة الأولى ، تفتح له طريقا نحو استعادة أسباب نجاحه وتعوضه أدوات قوته ، ولكنها فى نفس الوقت توضح له سبب خسارته الحقيقى ويستبين منه المسبب الحقيقى لفقدانه أدوات قوته ، ومنها يعرف ويوقن ويتأكد أن من أوقع به بلوى كبرى قتله أو ظلمه أو قهره ، ليس هو سبب خسارته ، ويعرف ظلام نفسه ومدى جرمه بأن توضح له بما لا يدع مجالا للشك ، أن سبب خسارته ليس الشخص الذى أوقع به ، بل هنالك سبب آخر لخسارته هو نفسه المتسبب فيها لعدم فهمه الصحيح ، وعدم تفكيره الحسن الذى لم يبين له كيف يستمر فى النجاح وكيفية الخروج من الخسارة بطرق حسنة قويمة سليمة تحتم الصبر والشكر للقوة العليا معتبرا ذلك امتحانا منها ، والذي كان يحتم عليه الإعداد الجيد بالصبر العظيم والتفكير السليم واللجوء إلى الله يتذلل له ليعينه على خسارته ويخفف من آثار بلواه ، حتى يستطيع مواصلة طريقه نحو استعادة أسباب سعادته وأدوات قوته ، ولكنه لم يفعل ذلك لرعونته وتسرعه وتكبره ، ويصبح وهو يواجه المخاطر الحقيقية بعد أن استعاد أسباب قوته وأدوات نجاحه التى تشعره بالقوة والتفوق ، والمقدرة على ترويض كل السبل نحو حاجته وهدفه ، ولكن تتهدد حياته كلها المخاطر من جراء ارتكابه جريمة عامدا متعمدا ، وهذه الجريمة تستوجب عليه العقاب الحتمي ، فيحاول المراوغة والتضليل والتهرب من هذا العقاب المستوجب ، مستندا على نجاحه وتفوقه وجبروته وتحلله من القيم والأخلاق التى تكبل حركته ، بطرق شتى يتبعها ، ويزداد عناده للمشيئة الإلهية التى يعرف أنه خالف أوامرها ولم يتجنب نواهيها ، وهى تصطبر عليه وتمد له فى غيه مدا بما تشعره بأنه قادر على التهرب من جريمته واستحقاق العقاب ، ويحاول ان يسبر أغوار سبب خسارته الحقيقى حتى ينتقم منه ، بدافع التكبر الأجوف والتصرف الأرعن والغرور الأعمى ، أو يلصق به جريمته حتى يحدث ...
التعرف
أن يهم الفاعل بفعله المفزع وهو يعرف من سيقع عليه الفعل ويعرف حقيقته ، ومع ذلك يقوم بكمال الفعل ، فليس من المعقول ولا المقنع أن يرتكب شخص جريمة ويتمها من غير أن يعرف المفعول به ، فعن أي شيء أو أي سبب يقتله أو يوقع به ، وتحت أي مسمى يقبل على القتل بدون سبب، وحتى إن وجد السبب ، فهل يقتل وهو لا يعرف على وجه الدقة بمن أوقع به؟!
إذن لا بد حال ارتكاب الفعل المفزع أن يكون القائم بالفعل يعرف تماما من سيقع عليه الفعل ، ولذلك يتمه تحت ذريعة أنه السبب في خسارته أو فقدانه أسباب قوته.
وفيه يعرف أن سبب خسارته لم يكن الشخص الذى أوقع به ، السبب مشيئة الله وحده وليس لأحد دخل بخسارته غير تواجد من أوقع به في غير الوقت المناسب مما يبدو أنه السبب ، ومع أنه كان العكس من ذلك لأنه حاول جاهدا التغلب على أسباب الخسارة بمحاولة منعها .
النهاية
فيندم أشد الندم على ما فعله بمن أوقع به ، وهذا يقوده إلى مصيره المحتوم نحو القصاص بسب هذه الجريمة التى اقترفها بكامل وعيه وإرادته ، وتكون النهاية مؤسفة مؤلمة حزينة مفزعة للبطل ، طامة كبرى وبلية عظيمة لا تبقى عليه ولا تذر ، مفرحة لنا ، إما إلى سجن أو إعدام ، وإما فاجعة من فعل القوة العليا نفسها التى تقتص منه ، بأن يصرع ويفجع فى حياته التى تفنى وتنتهى.
ساحة النقاش