بقلم: طارق عبد الرحمن

في السنة العاشرة من الهجرة خرج رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لأداء فريضة الحج، ليُعلم الناس مناسكهم، وليُتمم أركان الإسلام، فلقد تعلم المسلمون من رسول الله- صلى الله عليه وسلم- صلاتهم وصيامهم وأمر زكاتهم، وكذلك باقي العبادات والواجبات، وبقي أن يُعلمهم مناسكهم، وكيفية أداء شعائر الحج، وذلك بعد التقاليد الجاهلية المتوارثة أيام موسم الحج، فكانوا قديمًا يطوفون بالبيت وهم يشتغلون بالصفير، كما كانوا يطوفون بالبيت وهم عرايا.

 

من أجل ذلك ذهب الكثير من المسلمين مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حتى يتعلموا منه كيفية أداء هذه الفريضة، لذلك خرج ما يزيد على المائة ألف، ووقفوا يستمعون لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- في خطبته، ولِمَ لا وهو النبي الخاتم فلا نبي بعده، ولِمَ لا وقد اتبعوه وآمنوا به وصدقوه، ولِمَ لا وقد صدق وآمن به الشجر، فكيف يكون حال الرجال؟

 

اقرأ معي هذه القصة حتى تعرف كيف كان حال الشجر مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: دنا أعرابي من النبي- صلى الله عليه وسلم- فقال: "يا أعرابي أين تريد؟" فقال: إلى أهلي، قال: "هل لك إلى خير"، قال: وما هو؟، قال: "تشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدًا عبده ورسوله"، قال: من يشهد لك على ما تقول؟ قال- صلى الله عليه وسلم-: "هذه الشجرة وهي بشاطئ الوادي"، فأقبلت تخد (تشق) الأرض، حتى قامت بين يديه- صلى الله عليه وسلم- فاستشهدها ثلاثًا، فشهدت أنه كما قال، ثم رجعت إلى مكانها، فإذا كان هذا هو حال الجماد، فكيف يكون حال الرجال؟!

 

أخي.. إن تعاليم الإسلام واضحةٌ ليس فيها غموض أو لبس، تعاليم تساعد على الرقي والتقدم إن التزم المسلمون بها، وذلك لأنها تعاليم تهتم بكل نواحي الحياة، كما أنها تُوضح للإنسان سواء أكان ذكرًا أم أنثى ما يجب عليه نحو خالقه، ونحو نفسه، ونحو غيره؛ لذلك قال- صلى الله عليه وسلم- مؤكدًا على هذه المعاني: "أيها الناس، إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، فمن كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها".

 

في هذه الجمل البالغة الحكمة نجد أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يحرم على الإنسان أن يعتدي على دم غيره أو على ماله أو على عرضه، وهذا التحريم ممتد إلى أن يرث الله الأرض ومَنْ عليها، حتى يعيش الإنسان في أمن وأمان داخل المجتمع، لذلك كان هناك القصاص وكانت الحدود لمن ارتكب هذه الجرائم، وصدق الله العظيم إذ يقول: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179)﴾ (البقرة).

 

يا له من قانون إلهي يصلح الكون!! فعندما يطبق هذا القانون الإلهي أن النفس بالنفس والعين بالعين، تهدأ النفوس وترتاح، أما إذا لم يطبق هذا القانون فإن أهل القتيل لا يرضون إلا بقتل من قتل ولدهم، وعندما يحدث ذلك فإن الجانب الآخر لا يسكت أيضًا ويأخذ بالثأر، عند ذلك يعم الفساد وتخرب البلاد، لذلك حذر النبي- صلى الله عليه وسلم- من التعدي على الغير فقال: "من أعان على قتل مؤمن ولو شطر كلمة، لقي الله مكتوب بين عينيه آيس من رحمة الله".

 

فما بال هؤلاء الذين يروعون الناس، ويدخلون الفزع والرعب في نفوسهم، ويرتكبون ما يرتكبون، ولو كانت قلوبهم بها ذرة من الإيمان ما فعلوا، لكن قست قلوبهم فهي كالحجارة أو أشد قسوة، لذلك فهم أبعد الناس عن رحمة الله تعالى فمن لا يَرحم لا يُرحم.

 

أما عن بيان حرمة الأموال، فقد حرم الإسلام السرقة، وذلك لما تجلبه من أضرار للمجتمع، فالإنسان يكد ويكدح في هذه الحياة طلبًا للرزق، ويتحمل المشاق والمتاعب في سبيل أن يحيا حياةً كريمةً هو وأسرته، فإذا جاء السارق وسرق منه ما تعب في جمعه، فإنه يعيش بعد ذلك حياةً مليئةً بالآلام والأحزان، وقد يترتب على هذه السرقة إراقة الدماء.

 

لذلك كانت عقوبة هذا السارق على اليد التي امتدت إلى مال الغير فاستولت عليه بغير حق، والإسلام ما فعل ذلك إلا من أجل القضاء على المفاسد والشرور من المجتمع، حتى يعيش الناس في أمن وأمان وسلام، بل وأعطى الإسلام الحق لهذا الرجل أن يدافع عن ماله الذي تعب في جمعه حتى ولو قاتل عليه، جاء في صحيح مسلم: "أن رجلاً جاء إلى النبي- صلى الله عليه وسلم- فقال له: يا رسول الله، أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي، قال: فلا تعطه مالك، قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال: قاتله، قال: أرأيت إن قتلني؟، قال: فأنت شهيد، قال: أرأيت إن قتلته؟ قال: هو في النار".

 

ومن الأحاديث التي أكدت هذه الحقائق، قوله- صلى الله عليه وسلم-: "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأعراضهم، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه"، ثم يقول النبي- صلى الله عليه وسلم- في خطبته الجامعة: "فمن كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمن عليها".. يأمر النبي- صلى الله عليه وسلم- أتباعه بأن يعتنقوا الأمانة، وأن يبتعدوا عن الخيانة، وذلك لأن أداء الأمانة دليل على صدق الإيمان، وعلى حسن المراقبة لله عز وجل، ولقد أمرنا الله تعالى أن نؤدي الأمانة فقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ﴾ (النساء: من الآية 58)؛ لذلك قال- صلى الله عليه وسلم-: "أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك".

 

ومن توجيهات النبي- صلى الله عليه وسلم- في خطبته البليغة الحكيمة، قوله: "اتقوا الله في النساء، فإنكم إنما أخذتموهن بأمان الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله، إن لكم عليهن حقًّا، ولهن عليكم حقًّا، لكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدًا تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربًا غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف".. ما أعظم هذه الوصية في مثل هذا الموقف، ليعلم كل من الزوجين ما يجب عليه نحو الآخر، فالمرأة في العصر الجاهلي كانت مهملةً ليس لها حق في أي شيء، بل إنها كانت محرومةً من حق الحياة أصلاً، وفي ذلك يقول الله تعالى: ﴿وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوَارَى مِنْ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (59)﴾ (النحل).

 

ولكن عندما جاء الإسلام تغير ذلك تمامًا، فبين أن هناك مساواةً بين الرجل والمرأة في أصل الخِلقة، وفي التكاليف الشرعية، وفي الكرامة الإنسانية، وبعد ذلك يكون المصير والجزاء واحدًا، قال تعالى: ﴿وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ (غافر: من الآية 40).

 

فلو نظر كل شخص لما له من حقوق فقط، ما استقامت الحياة، أما لو أدى الرجل ما عليه نحو المرأة، ولو أدت المرأة ما عليها تجاه الرجل، لأصبحت حياتهما سعيدةً وانعكس ذلك على الأبناء.

 

ومن توجيهات النبي- صلى الله عليه وسلم- في هذه الخطبة العظيمة: "أيها الناس، إن الشيطان قد يئس أن يُعبد في أرضكم هذه، ولكنه رضي أن يُطاع فيما سوى ذلك مما تحقرون من أعمالكم".

 

في هذه الكلمات البليغة يبين لنا النبي- صلى الله عليه وسلم- أنه إذا كان الشيطان قد أيقن أنه لن يُعبد في هذه الأرض، إلا أنه قد أيقن أيضًا أنه قادر على أن يُزين الفحشاء والمنكر لبعض الناس فيتبعوه ويسيروا وراءه، لذلك حذرنا القرآن الكريم من إتباعه، مبينًا أنه العدو الأول للإنسان في هذه الأرض، فقال تعالى: ﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (6)﴾ (فاطر)، كما قال تعالى أيضًا: ﴿..... وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ (169)﴾ (البقرة: من الآيتين 168- 169).

 

وهذا الشيطان الذي يسير خلفه بعض الناس يتبرأ منهم يوم القيامة، وفي ذلك يقول الله عز وجل: ﴿وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِي مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (22)﴾ (إبراهيم).

هذه بعض الدروس المستفادة من خطبة النبي- صلى الله عليه وسلم- في حجة الوداع..

نسأل الله عز وجل أن ينفعنا بما جاء فيها، كما نسأله زيارة بيته الحرام، اللهم آمين.

<!--<!--<!--[if gte mso 10]> <mce:style><! /* Style Definitions */ table.MsoNormalTable {mso-style-name:"Table Normal"; mso-tstyle-rowband-size:0; mso-tstyle-colband-size:0; mso-style-noshow:yes; mso-style-parent:""; mso-padding-alt:0cm 5.4pt 0cm 5.4pt; mso-para-margin:0cm; mso-para-margin-bottom:.0001pt; mso-pagination:widow-orphan; font-size:10.0pt; font-family:"Times New Roman"; mso-ansi-language:#0400; mso-fareast-language:#0400; mso-bidi-language:#0400;} -->

 

<!--[endif]-->

وأقول: خطب لا خطبة، لأنه ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب في أكثر من موضع في حجة الوداع، فقد خطب في يوم عرفة كما بينا ، وخطب أصحابه في أيام منى بعد رمي جمرة العقبة، وخطب أيضاً في يوم النحر، ثم خطب وهو راجع إلى المدينة. وهذه الخطب قد استخلصت منها الفوائد والدروس ونجملها في الآتي: 

للمزيد طالع المرفقات

 

alber-altkwa

ثورة 25 يناير انتصار لإرادة الشعب المصرى وبداية عهد جديد - نحمل الخير لمصر

  • Currently 46/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
16 تصويتات / 1208 مشاهدة

ساحة النقاش

alber-altkwa

تضمنت المحاضرة هذه الفقرات :
قطع الصلة بالجاهلية ، من صور الجاهلية: التبرج والاختلاط ،من صور الجاهلية: الربا ، مكانة الدماء في الإسلام ، التحذير من الذنوب والمعاصي ، الأخوة في الله ،
الوصية بالنساء، تحديد العلاقة بين الحاكم والمحكوم، مهمة الأمة: البلاغ ، حكم صيام يوم عرفة للحاج ، يبعث المرء على ما مات عليه ، جواز الحج عن الغير ،حكم طواف القدوم ، حكم المرأة الحائض في الحج ،بيان معنى الاشتراط في الحج وحكم من فاته الوقوف بعرفة ، حكم إدخال الفدية على الهدي ، أركان الحج وواجباته ، واجبات الحج التي تجبر بدم

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

824,568

كافل اليتيم مع النبى فى الجنة

عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا وأشار بالسبابة والوسطى وفرج بينهما ) رواه البخاري قال الحافظ ابن حجر في شرح الحديث: [قال ابن بطال : حق على من سمع هذا الحديث أن يعمل به ليكون رفيق النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة ولا منزلة في الآخرة أفضل من ذلك]"
قال الله تعالى : {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاء اللّهُ لأعْنَتَكُمْ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }البقرة 
                        كفالة اليتيم