العدد 4 لسنة 2016

طارق ج/2

للأديب التونسي عبد الفتاح قرقني

 

ليس هنالك أسوء من نظام يقضي على النّاس بالانحدار إلى منزلة الحيوان و ليس يوجد أتعس من سلطة  لا تضمن لي الشّغل حسب اختصاصي فأنا أستاذ عربيّة و الله يعلم بحالي كم شرّدتني البطالة المقيتة و كم أفناني التعب و الحرّ عندما رضيت أن أكون عاملا يوميّا أكسب قوتي بكدّ يميني و عرق جبيني »
- « ربّي يقدّر الخير لك و لأمثالك من أصحاب الشّهائد العليا  . أنصحك بأن لا تستسلم لعواصف اليأس فعليك أن  تكون كفجر الحياةِ الوضيء  يداعبُه الأملُ النيرُ و أنصحك أيضا بأن لا تكلّف نفسك إلاّ وسعها فلا تحمّلها  ما لا طاقة لها كالثّور الّذي يقولون عنه في الأساطير القديمة أنّه يحمل الكرة الأرضيّة على قرنه »
     الحمد لله فها فقد علت وجه طارق ابتسامة حلوة و إشراق رائق و غبطة لا سبيل إلى وصفها كانت تنطق من قلبه بما لا تستطيع الألسنة أن تنطق به أو يصوّره البيان المبين. و لمّا   تهلّلت الوجوه و  اطمأنّت النفوس بعد اضطرابها  و كلّت الألسن من الحديث  انبرى الأصدقاء للعب الورق في زهــــــو و طرب .
         على السّاعة العاشرة ليلا  ، آب  طارق إلى مسكنه حثيث الخطى فحرّر العديد من مطالب الشّغل و أرفقها بنسخ مطابقة للأصل من شهادة الأستاذية ثمّ استلقى على فراشه  لينصت  إلى أغنية شجيّة فإذا الألحان تنساب بين خفق عود و ترنّم شاد . يا لها من أنغام صقيلة تتعالى و تتماهى لتستقرّ في عمق وجدانه و أقصى روحه !  وقع الإنشاد في نفسه أحسن وقع فاهتزّ طربا و سرح بأفكاره بعيدا : «  شوقي إلى التّدريس حتّى يردّ الاعتبار إلى شهادتــــــي و أكون مطمئنّا ، سعيدا ،  راضيا عن نفسي تمام الرضا فأنا منذ سنوات بطّال مضطهد ذو عبقريّة مقبورة و حظّ متعثّر ... شوقي إلى العيش الكريم الّذي بدونه لا طعم و لا معنى للحياة ... شوقي إلى الحريّة الّتي لا يحدّها حدّ و لا تنقلب إلى عبث أو فوضى أو استهتار بالقيم ... شوقي إلى الكرامة الّتي ترفــــــــــــع من همّتـــــي و شهامتـــــــــــــي و رجولتي ». و ما هي إلاّ دقائق معدودة حتّى ران الكرى في عينيه فاستسلم إلى نوم عميق .
    في الغد و عند الأصيل ،  تهاطلت الهدايا و الهبات الماليّة على طارق من أهل البرّ و الإحسان فمنهم من يعرفه و منهم من لا يعرفه . فما أعظم الصداقات إذا كانت في سبيل الله لا يتبعها منّ و لا أذى ! ما أنبل الصّدقات إذا أدخلت الفرحة على الفقراء و المساكين و خفّفـــــــــت من معاناتهم !  : كرسيّ متحرّك و شاشيّة قرمزيّة اللّون للأب ... فستـــــــــان و لحاف من الحرير للأمّ  ... سروال و حذاء أسود لمّاع لفاطمة  ... كسوة أنيقة و محفظة جلديّة و صندوق به طائرة مفكّكة للشّقيق عليّ ... أصناف من الحلويّات اللّذيذة المرشوشة بماء الورد فمنها الكعــــــــــــك و المقروض و البقلاوة .       و عندما أرخى اللّيل سدوله حائكا من خيوط الظّــــــــــــــــــــــــلام  جلبابا قاتما  كثيفا  ترشّف طارق قهوته السّوداء على مهل  مستصيغا طعم ماء الزّهر فيها و من حين لآخر  كان يجذب  نفسا عميقا من سيجارته ثمّ يزفره سحابة رماديّة  من الدّخان . و بعد نيل نصيب من الرّاحة  ،  هاتف طارق  أفراد أسرته الواحد تلو الآخر  ليستفســـــــــــــــــر عن أحوالهم  و يزفّ إليهم في بهجة خبر عودته  قبيل العيد بيومين ثمّ رصّف رفقة ابن عمّه محمّد الملابس في حقيبة جديدة و هما ينشدان في طرب  و حنين أغنيات قرويّة شجيّة حفظاها في عهد الطّفولة.
         ما القضاء إلاّ قضاء الله سبحانه و تعالى  فكل أمر بمشيئته و قدرته   يصبو و يتطلّع إلى  تحقيق باقة من أمانيه  لكنّه لن  يحقّق إلاّ البعض منها فكما يقول الشّاعر العربيّ المقتدر و العظيم  أبو الطيّب المتنبّي :
« ما كلّ ما يتمنى المرء يدركـــــــه
تجري الرّياح بما لا تشتهي السّفن »
       و في الخامس و العشرين من شهر رمضان  ، أسفر الصّبح شاحبا كئيبا و أشرقت الشّمس بنور ربّها فأرسلت أشعّة فاترة، خائرة، متهالكة خلّفت على عباب البحر خطوطا أرجوانيّة  متعرّجة تنفتح حينا و تنغلق حينا آخر و حلّقت  في الجوّ طيور ضخمة لها أصوات موحشــة  كنعيق الغــربان . على حين غرّة ، أبصر أحد  أعوان  الحماية المدنيّة على  الشّاطئ الرّمليّ  كوما من الملابـــس و حذاء رياضيّا  فوجف قلبه  و اقشعرّ بدنــــه و توجّس  في نفسه خيفة من أن يكون هنالك حادث غرق راح ضحيّته شخص لا يعرف  السّباحة   . في الحين ، أولج  يده المرتعشة  في جيب  سروال الدّجين فعثر بداخله  على قطع نقديّة  ليست ذات بال و  بطاقة تعريف وطنيّة تحمـــــل اســـــم الشّابّ طــــــــارق و هو أصيل سيدي بوزيد .
      على جناح السّرعة، انطلق التّمشيط  على قدم و ساق في أعراض البحر على متن زوارق حثيثة  . و بعد جهد جهيد و تعب شديد اهتدى فريق من الغطّاسين إلى الهالك الّذي استحال  جثّة هامدة في أعماق البحر تنهش لحمها الأسماك فأخرجوه بواسطــــة عوّامة سريعة إلى الشّاطــــــــئ و أفرغوا ما بجوفه من ماء و تيقّنوا من خلال الصّورة المثبّتة ببطاقة التّعريف  الوطنيّة من أنّ الغريق هو طارق
             يا له من مسكين فهو قد امتدّت له يد المنون و هو في مقتبل العمر و في أوج النّضال في سبيل تحقيق أمانيه المتعثّرة ! اللّيلة البّارحة ، بدل أن يولّي وجهه شطر المقهى خطر بباله أن يؤمّ البحر للاستحمام  فيه و الابتراد بمائه المنعش فالحرّ الشّديد قد حرق  جسده و هيّج عرقه فانبعثت من إبطيه روائح كريهة عجز عن التّخلّص منها بأرقى أنواع العطور .
        كان الشّاطئ مقفرا  على غاية من السّكون فلا تسمع إلاّ حفيف جريد تغازله نسائم رقراقة أو همس عباب ينكسر على الرّمل الذّهبيّ مخلّفا زبدا أبيــض و أصدافا مختلفة الأشكال و الألوان . سرعان ما ولج البحر الجميل و توغّل فيه دون أن يتفطّن إلى ذلك فالانتشاء خدّر روحه و أنساه في كلّ خطر يمكن أن يحدّق به  و هو في غفلة من أمره . يا لها من ورطة لا سبيل للخلاص منها ! ها هو  يصارع الأمــــــــــواج و الأمواج تصارعه و يغالـب القضــــــــــاء و القضاء يغالبه. يطفو تارة مستغيثا النّجدة ... النّجدة فلا يجد يدا تمتدّ إليه ، و يرسب أخرى في قاع البحر حتّــــــــــى تظنّه من الهالكيــــــن. و مازال يظهر ثمّ يتوارى ، يصيح ثمّ يخرس ، يتحرّك ثمّ يسكن حتّى كلّ ساعده و وهنت قواه  و ابيضّت عيناه و لم يبق منه إلاّ يد تختلـــــــــــــــج و رأس يضطرب ينبئ بأنّه على وشك  لفظه أنفاسه الأخيـــــرة . و ما هي إلاّ صرخة هائلة تنمّ عن فزع شديد حتّى رأى خيال الموت وجها لوجه ثمّ انطفأ  انطفاء الشّمعة في مهبّ الرّيح   و انجرف مع تيّار عنيد  إلى قاع البحر .
        و بعد أن قامت الشّرطة  بالإجراءات القانونيّة ، استرشدت عن دار ابن عمّه فاهتدت إليه  فسلّمته  جثمان الفقيد . من شدّة وقع الصّدمة تزلزل  قلب محمّد  و غشيت الكآبة وجهه و تمايلت على سحنته المنقبضة أشباح الأحزان و انبعثت من عينيه المبلّلتين بالدّموع  الغزيرة نظرات ذابلة  تعبّر عن  انسحاق قلبه و ظلمة صدره . إنّه  في كمد شديد يتصرّف كالأبله تصرّفات مذهلة  ليس له عليها سلطان :  ينتف شعره و يلطم خدّيه و يقرع صدره و يصرخ بأعلى صوته : «  طارق مات ... طارق مات ... زين الشّباب طارق لم يمتّع بالشباب ... كيف سأتجرّأ على إخبار أهله ؟ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ ... إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ » و حينما ذاع  نبأ الوفاة أقبل الرفـــــــــــاق فرادى و جماعات للتّعزية  و توديع طارق الوداع الأخيــــــــــــر و المساهمة بما تيسّر من المال في  تأمين نقله داخل  سيارة إسعاف مكيّفة إلى موطنه .
    انتظر الأهل و الأقارب و الجيران قدوم الجثمان في لوعة بالغة على أحرّ من الجمر. لا أعتقد  أنّ عائلته ستعرف أسى أشدّ وقعا من هذا الأسى الّذي ألمّ بها و أفقدها توازنها و صوابها  فهي ستودّع  فتاها في وقت قصير و تفارقه إلى الأبد بعد مواراته التّراب في رمس  مظلم و موحش داخل مقبرة القرية . ما أتعس الزّهور الّتي تنبت في الصّخر و تحرم من الظّروف الملائمة للنّموّ  فهي ستذبل و تفنى دون أن تحتفل بالرّبيع أو يحتفل الرّبيع بها ! .  هذا أب  قد  انعقد لسانه فانسكبت دموعه مدرارا متكلّمة عن عواطفه الجيّاشة فالخطب جليل لا يحتمل... و هذه أمّ  تنظر إلى السّماء بعينين غارقتين في البكاء مكحّلتين بإثمد الأسى و هي تقول  باستعطاف : « يا إله الكون أنعم  علي قرّة عيني  برحمتك و جنّتك و أنزل عليّ صبرا جميلا كصبر أيّوب »  و  تلك أخت صابرة على قضاء الله مؤمنة بأنّ الأجل محتوم و الرّزق مقسوم فهي كانت تخفّف من حزن والديها مستدلّة  بآيات من القرآن الكريم  و بأحاديث نبويّة شريفة . أمّا عليّ فقد أحسّ بقلبه ينتحب في أعماق صدره  فعضّ على شفتيه متوجّعا متحسّرا ثمّ قال كلاما تزلزلت له  الأرض و من عليها : «  مات الّذي كان يواسيني عند البكاء بكلام لطيف رقراق و قبلات مفعمة بالودّ و المحبّة و قطع من الشّكلاطة اللّذيذة  و لكنّ روحه  مازالت حاضرة ، حيّة ترفرف أمامي في الأفق كالحمائم البيض . اطمئنّ يا شقيقي  فأنا سأطالع ما بمكتبتك من كتب و مجلاّت  و سوف أكون بمشيئة الله أستاذ عربيّة أنيق المظهر  لي  كسوة جديدة و محفظة جلديّة و سيّارة فاخرة رصاصيّة اللّـــــون  » 
         لا أظنّ أنّ عائلة طارق ستفرح بهدايا العيد حتّى و لو كانت نفيسة فهي بالنّسبة إليهم حقيرة خسيسة لا قيمة لها إذا لم يسلّمها محمّد إليهم بنفسه و هو في قمّة فرحه  متهلّل الوجه، منبسط الأسارير.
       كيف سينقضي عيد الفطر بالنّسبة لهذه العائلة المنكوبة الّتي قوّض الموت أخد أعمدتها و خلّف  في مهجتها أسى و حسرة و سعيرا متأجّج النّيران لا ينطفئ لهيبه ؟ هل سيضطرّ الأب للعمل في الأيّام القادمة متناسيا مرضه العضال فلعلّ الكرسيّ المتحرّك سيشجّعه  على ذلك ؟  سيكون الأب بين المطرقة و السّندان في وضع لا يحسد عليه  : الاستسلام إلى المرض سيذلّــــــــــه و يذلّ من معه و سيزيد في هوّة الفقر و الخصاصة و يحرمه من متعة العيش . أمّا العمل حتّى و إن كان يسيرا سينهك جسمه العليل و يهدّه هدّا و لكن سيمكّنه من الإنفاق على عائلته و هو موفور الكرامة، مرفوع الهامة ، شامخ شموخ الجبال الرّواسي . هل ستحتفظ الأمّ بشهادة الأستاذيّة في اللّغة العربيّة الّتي تركها ابنها في محفظته ؟ قد تمزّقها إربا إربا كما مزّق الموت قلبها و تلقي بها في مزبلة التّاريخ فهي لم تنقذ ابنها في أحلك الظّروف و ظلّت مجرّد حبر على ورق لا حول لها و لا قوّة فكم تمنّى محمّد أن يكون أستاذا أنيقا له  كسوة جديدة و محفظــــة جلديّة و سيّارة فاخرة رصاصيّة اللّـــــون  و لكن طاله الموت و هو في غفلة من أمره فهو بعد بضعة ساعات سيكون في كفن أبيض مسجّى  على حصير من الحلفاء  فوق  نعش من الخشب  ينتظر عمليّة  التّأبين و الدّفن في جنازة حاشدة  . من الأفضل أن تحتفظ أمّ محمّد بهذه الشّهادة النّفيسة في مكان لافت للنّظر بالمكتبة لأنّها تعدّ مفخرة لهذه العائلة الفقيرة و كنزا لها لا تعادله كنوز الأرض فهي رمز للاجتهاد و المثابرة  و التّضحية في سبيل  طلب العلــــم و الرّقيّ بالإنسان إلى أعلى مراتب المعرفة .  سعى طارق سعيا حثيثا أن تكون له وظيفة تنسيه في شبح الفقر و وحشيّة البطالة لكن الدّولة لم تقم بتشغيله شأنه شأن العديد من أصحاب الشّهائد العليا الّذين يعدّون بالآلاف . أيّها الشّباب الغُيُرُ  على الحرية و الكرامة و التّشغيل احملوا  مشعل النّضال و سيروا  على درب المجد ،  على درب الثّورة منتصبي القامات   مرفوعي الهمم منشدين  الأبيات التّالية لشاعر الثّورة أبي القاسم الشّابي  :
«  رُوَيدَكَ! لا يخدعنْك الربيــــــعُ
وصحوُ الفَضاءِ، وضوءُ الصباحْ
ففي الأفُق الرحب هولُ الظــــلام
وقصفُ الرُّعودِ، وعَصْفُ الرِّياحْ
حذارِ! فتحت الرّمادِ اللهيــــــــبُ
ومَن يَبْذُرِ الشَّوكَ يَجْنِ الجـــراحْ »

المصدر: البيت الثقافي العراقي التونسي
  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 154 مشاهدة
نشرت فى 7 مايو 2016 بواسطة albashiq
albashiq
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

28,040