إن القوة الحقيقية ليست قوة البدن كما يتبادر إلي ذهن الكثير من الناس عندما يسمع كلمة القوة، وإنما القوة بمعناها الشامل تنطوي على عدة أنواع أظهرها وليس أقواها: قوة البدن، ومن أنواع القوة أيضا القوة النفسية، والقوة الإيمانية.
وصاحبُ رسول الله عمر بن الخطاب آتاه الله كل هذه الأنواع من القوة، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء من خلقه.
وقد أشار النبي إلى أن مدار القوة ليس هو البدن فحسب وإنما يدخل معه أيضا القوة النفسية الناتجة عن تحمل الغير وكظم الغيظ. يقول النبي : "لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرْعَةِ، إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ"[1].
أولاً : القوة البدنية :
لا شك أن البيئة التي تربى فيها عمر بن الخطاب بما فيها من خشونة في العيش، وضيق في ذات اليد لها أثر كبير في تكوينه الجسدي، فليس من ينشأ في النعيم والظل والحرير كمن ينشأ تحت لظى الشمس الحارقة في جو مكة، وفي بيت الخطاب بن نفيل.
ولد عمر بعد عام الفيل بثلاث عشرة سنة، وفي رحاب مكة وجَوّها القائظ، وريحها اللافحة، وصحرائها القاحلة، وأبوه الخطاب بن نفيل العدوي، كان شديد البأس، قوي الشكيمة، مما أورثه بعضا من صفات القوة.
ووصف الفاروقَ من رآه بأنه رجل آدم، أعسر، أيسر يعمل بكلتا يديه، أصلع، أضخم، مفرط الطول، يفوق الناس طولاً، إذا كان فيهم بدا كأنه راكب على دابة والناس يمشون، جسيم، كأنه من رجال سدوس، كبير الشارب، إذا مشى أسرع، وإذا قال أسمع، وإذا ضرب أوجع، يصارع الفتيان في سوق عكاظ فيصرعهم، وبلغ من فروسيته وشدة بنيانه أنه كان يأخذ بأذن الفرس بيد وبأذنه بيده الأخرى، ثم يثب على الفرس. فهو قوي حتى في مظهره الخارجي.
ثانيًا: القوة النفسية :
الصراحة دليل القوة النفسية :
بقراءة سيرة الفاروق يظهر لنا حبه الشديد، وعاطفته الفياضة للرسول ، فحين يسمع رسول الله يقول: "لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكَونُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ مَالِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ حَتَّى نَفْسِهِ الَّتِي بَيْنَ جَنْبَيْهِ". فَيَقُولُ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ مَالِي وَوَلَدِي وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ إَلا نَفْسِي الَّتِي بَيْنَ جَنْبِي. فقال الرَّسُولُ : "لا يَا عُمَرُ". فرجع الفاروق إلى نفسه وحبه للنبي فقال: وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مَنْ مَالِي وَوَلَدِي وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ حَتَّى نَفْسِي الَّتِي بَيْنَ جَنْبِي. فَقَالَ الرَّسُولُ : "الآنَ يَا عُمَرُ". أي الآن اكتمل إيمانك يا عمر، أعلن عمر صراحةً في بادئ الأمر أن حبه للنبي أكثر من أي شيء إلا نفسه وهذه الصراحة دليل على قوته النفسية.
والشجاعة أيضًا دليل على القوة النفسية :
انظروا إلى شجاعة عمر :
عن ابن عمر قال: لما أسلم عمر بن الخطاب لم تعلم قريش بإسلامه، فقال: أي أهل مكة أفشى للحديث؟ فقالوا: جميل بن معمر الجمحي، فخرج إليه وأنا أتبع أثره، أعقل ما أرى وأسمع، فأتاه فقال: يا جميل إني قد أسلمت. فقال: فوالله ما رد عليه كلمة، حتى قام عامدًا إلى المسجد، فنادى أندية قريش فقال: يا معشر قريش إن ابن الخطاب قد صبأ. فقال عمر: كذب، ولكني أسلمت وآمنت بالله وصدقت رسوله. فثاوروه فقاتلهم حتى ركدت الشمس على رءوسهم، حتى فتر عمر، وجلس فقال: افعلوا ما بدا لكم، فو الله لو كنا ثلاثمائة رجل لقد تركتموها لنا أو تركناها لكم. فبينا هم كذلك قيام إذ جاء رجل عليه حلة حرير، وقميص موشى، فقال: ما لكم؟ فقالوا: إن ابن الخطاب قد صبأ. قال: فمه، امرؤ اختار دينًا لنفسه، أتظنون أن بني عدي تسلم إليكم صاحبهم؟ قال: فكأنما كانوا ثوبًا انكمش عنه. فقلت له بعدُ بالمدينة: يا أبت، من الرجل الذي رد عنك القوم يومئذ؟ قال: يا بني، ذاك العاص بن وائل.
هذا هو الفاروق عمر بن الخطاب يعلن إسلامه علانية أمام أئمة الكفر وأساطين الضلالة دون خوف أو جبن من العقاب والإيذاء الذي سوف يناله من كفرهم وعنادهم، لقد سطع نور الإسلام في قلب عمر وأراد لهذا الدين أن يسود، وأن يكون لصاحبه حق الإعلان عن ولائه لهذا الدين، وأن تكفل له حقوق إبداء الرأي وممارسة شعائر دينه.
وقصة إسلام عمر تدل على شجاعته وقوته، فهو يريد قتل خاتم الأنبياء، ويتوشح سيفه عند الهاجرة، ولكن إرادة الله تجعل نعيم بن عبد الله يقابله، ويخبره عن إسلام أخته وزوجها، فيتحول إلى بيتها، ويعلو على زوجها، ويشج وجه أخته، وتسيل الدماء. فيرق قلب عمر، وينطق بالشهادة.
"قال عبد الله بن مسعود: كَانَ إِسْلامُ عُمَرَ فَتْحًا، وَكَانَتْ هِجْرَتُهُ نَصْرًا، وَكَانَتْ إِمَارَتُهُ رَحْمَةً، وَلَقَدْ رَأَيْتُنَا وَمَا نَسْتَطِيعُ أَنْ نُصَلِّيَ فِي الْبَيْتِ حَتَّى أَسْلَمَ عُمَرُ، فَلَمَّا أَسْلَمَ عُمَرُ قَاتَلَهُمْ حَتَّى تَرَكُونَا فَصَلَّيْنَا"[2].
ثالثًا: القوة الإيمانية :
"العقيدة المكينة، معين لا ينضب للنشاط الموصول، والحماسة المدخورة، واحتمال الصعاب، ومواجهة الأخطار، بل هي سائق حثيث يدفع إلى لقاء الموت دون تهيب، إن لم يكن لقاء محب مشتاق، تلك طبيعة الإيمان إذا تغلغل واستمكن، إنه يضفي على صاحبه قوة تنطبع في سلوكه كله، فإذا تكلم كان واثقا من قوله، وإذا اشتغل كان راسخا في عمله، وإذا اتجه كان واضحا في اتجاهه، وما دام مطمئنًا إلى الفكرة التي تملأ عقله، وإلى العاطفة التي تغمر قلبه، فقلما يعرف التردد سبيلاً إلى نفسه، وقلما تزحزحه العواصف العاتية عن موقفه"[3].
وعمر الذي كان بين الصحابة متفردًا بالصرامة والصراحة والقوة في الحق، والشدة في دين الله. هو نفسه عمر الأواه الأواب الخاشع الضارع المخبت المنيب، الذي ذلت له نفسه في الله، بل ذل له شيطانه الذي لم يجرؤ أن يسير في طريق يسلكه عمر وإذا رآه ولى مدبرًا، وما أفصح وأدق قول رسول الله وهو يرى عمر داخلاً عليه ذات يوم فيقول: "إِيِهِ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ, وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا لَقِيَكَ الشَّيْطَانُ سَالِكًا فَجًّا قَطُّ إِلا سَلَكَ فَجًّا غَيْرَ فَجِّكَ. إِنِّي لأَنْظُرُ إِلَى شَيَاطِينِ الْجِنِّ وَالإِنْسِ قَدْ فَرُّوا مِنْ عُمَرَ". ولت الشياطين الدبر فَرَقًا وخَوْفًا من هذا المؤمن المُؤَيد بنصرة الله، ويئست منه أن تصرفه عن عزائم الأمور، أو الوسوسة له بالشر، فليس هذا من شأنها معه.
ويكفي المرء في معرفة قدر الفاروق عمر أن يتعرف على وصف الرسول للفاروق بالشدة في دينه والقوة في أمر الله تعالى، يروي أنس بن مالك عن الرسول : "أَشَدُّ أُمَّتِي فِي أَمْرِ اللَّهِ عُمَرُ".
وقال صهيب : لما أسلم عمر بن الخطاب ظهر الإسلام ودُعي إليه علانية، وجلسنا حول البيت حلقًا، واتنصفنا ممن غلظ علينا، ورددنا عليه.
إنه عمر وما أدراك ما عمر
أَعْنِي بِهِ الْفَارُوقَ فَرَّقَ عُنْوَةً *** بِالسَّيْفِ بَيْنِ الْكُفْرِ وَالإِيمَانِ
هُوَ أَظْهَرَ الإِسْلامَ بَعْدَ خَفَائِهِ *** وَمَحَا الظَّلامَ وَبَاحَ بِالْكِتْمَانِ
هجرة الفاروق عمر :
لما أسلم عمر بن الخطاب أَبَى إلا أن يكون إسلامه علانية، وإيمانه مشتهرًا يتسامع به الناس، كذا لما أراد الهجرة أبى إلا أن تكون علانية.
يقول ابن عباس رضي الله عنهما: قال لي علي بن أبي طالب : ما علمت أحدًا من المهاجرين هاجر إلا مختفيًا، إلا عمر بن الخطاب.
فإنه لما هم بالهجرة، تقلد سيفه، وتنكب قوسه، وانتضى في يده أسهمًا، واختصر عنزته، ومضى قبل الكعبة والملأ من قريش بفنائها، فطاف بالبيت سبعًا متمكنًا، ثم أتى المقام، فصلى متمكنًا، ثم وقف على الحلق واحدة، واحدة، فقال لهم: شاهت الوجوه، لا يرغم الله إلا هذه المعاطس، من أراد أن تثكله أمه، أو يوتم ولده، أو يرمل زوجه فليلقني وراء هذا الوادي.
قال ابن الجوزي: قويت شدة عمر في الدين فصلبت عزائمه، فلما حانت الهجرة، تسللوا تسلل القطا، واختال عمر في مشيته، فقال: عند خروجه ها أنا أخرج إلى الهجرة، فمن أراد لقائي فليلقني في بطن هذا الوادي.
ولنا وقفة مع هذا المشهد العمري، إذ كيف يهاجر عمر بن الخطاب جهرًا، ويهاجر الرسول سرًّا.
إن عمر لا يمثل القدوة للمسلمين؛ وإنما القدوة الأولى هو الرسول ، وفي المسلمين من هو ضعيف ومن هو قوي، وعدم اعتراض النبي على خروج عمر جهرًا فيه دلالة واضحة على أن من استطاع من المسلمين أن يخرج في قوة وجهر حال كونه قادرًا على ذلك فليفعل، ومن استطاع من المسلمين الأقوياء أن يظهر معالم الإسلام في مجتمع تسود فيه الجاهلية فليفعل وفي عمر قدوة له، ولكن ليس على الضعفاء حرج.
هيبة عمر :
اتصف الفاروق بالهيبة لما كان عليه من قوة الدين، والحرص على أمر الله، والوقوف عند حدوده.
ومن هيبة الفاروق أن هناك جارية نذرت أن تضرب بين يدي النبي إن رده سالمًا، فلما أذن لها رسول الله في الوفاء بما نذرت فجعلت تضرب، فدخل أبو بكر وهي تضرب، ثم دخل عليّ وهي تضرب، ثم دخل عثمان وهي تضرب، ثم دخل عمر فألقت الدف تحت استها، وقعدت عليه هيبة له .
ومن هيبة الفاروق، أنه كان للإسلام حصنًا فقمع الكافرين وكبت المنافقين وعلت في خلافته راية الموحدين.
رجل لا تأخذه في الله لومة لائم :
يروي طارق بن شهاب رحمه الله أن حذيفة خطبهم فقال: والله ما أعرف رجلاً لا تأخذه في الله لومة لائم غير هذا الرجل: عمر بن الخطاب فكيف أنتم لو قد فارقكم؟! ألا يدعونا ذلك إلى التأسي بالفاروق بألا تأخذنا في الله لومة لائم.
ألا نقتدي بعمر فنقدم مرضاة الله تعالى على الخلق أجمعين.
هذا ما نرجوه، وهذا ما نتمناه.
الشيطان يفر من عمر :
من مناقب عمر بن الخطاب التي عُرف بها بين أصحاب النبي أن الشيطان كان يفر منه، ويسلك طريقًا غير طريقه.
يقول سعد بن أبي وقاص : اسْتَأْذَنَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عَلَى النَّبِيِّ وَعِنْدَهُ نِسَاءٌ مِنْ قُرَيْشٍ يَسْأَلْنَهُ، وَيَسْتَكْثِرْنَهُ عَالِيَةً أَصْوَاتُهُمْ عَلَى صَوْتِهِ، فَلَمَّا اسْتَأْذَنَ عُمَرُ تَبَادَرْنَ الْحِجَابَ فَأَذِنَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ فَدَخَلَ وَرَسُولُ اللَّهِ يَضْحَكُ فَقَالَ: أَضْحَكَ اللَّهُ سِنَّكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي. فَقَالَ الرَّسُولُ : "عَجِبْتُ مِنْ هَؤُلاءِ اللاتِي كُنَّ عِنْدِي، فَلَمَّا سَمِعْنَ صَوْتَكَ بَادَرْنَ الْحِجَابَ". فَقَال عُمَرُ: أَنْتَ أَحَقُّ أَنْ يَهَبْنَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْهِنَّ فَقَالَ: أَيْ عَدُّوَاتِ أَنْفُسِهِنَّ أَتَهَبْنَنِي وَلا تَهَبْنَ رَسُولَ اللَّهِ ؟ فَقُلْنَ: نَعَمْ أَنْتَ أَفَظُّ وَأَغْلَظُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ . فَقَالَ النَّبِيُّ : "إِيِهِ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا لَقِيَكَ الشَّيْطَانُ قَطُّ سَالِكًا فَجًّا إِلا سَلَكَ فَجًّا غَيْرَ فَجِّكَ".
أضحك الله سنك: لم يرد به الدعاء بكثرة الضحك، بل لازمه، وهو السرور أو نفي ضد لازمه وهو الحزن.
إيه: بالكسر والتنوين معناها حدثنا ما شئت وبغير التنوين زدنا مما حدثنا.
وقال النووي هذا الحديث محمول على ظاهره، أن الشيطان متى رأى عمر سالكًا فجًّا هرب هيبة من عمر، وفارق ذلك الفج، وذهب في فج آخر لشدة خوفه من بأس عمر أن يفعل فيه شيئًا.
قال رسول الله : "إِنَّ الشَّيْطَانَ لَيَخَافُ مِنْكَ يَا عُمَرُ".
وعن تلك المنقبة التي ثبتت لعمر بن الخطاب يحدثنا ابن مسعود فيقول: خرج رجل من أصحاب النبي ، فلقى الشيطان فاشتجرا فاصطرعا، فصرعه الذي من أصحاب رسول الله ، فقال الشيطان: أرسلني أحدثك عجيبًا يعجبك. قال: فأرسله. قال: فحدثني. قال: لا. قال: فاشتجرا الثانية، واصطرعا، فصرعه الذي من أصحاب محمد ، قال: أرسلني فلأحدثك حديثاًَ يعجبك. فأرسله. فقال: حدثني. فقال: لا. فاشتجرا الثالثة. فصرعه الذي من أصحاب محمد ، ثم جلس على صدره، وأخذ بإبهامه يلوكها، فقال: أرسلني. قال: لا أرسلك حتى تحدثني. قال: سورة البقرة، فإنه ليس منها آية تقرأ في وسط الشياطين إلا تفرقوا ولا تقرأ في بيت، فيدخل ذلك البيت شيطان. قالوا: يا أبا عبد الرحمن، فمن ذلك الرجل. قال: فمن ترونه إلا عمر بن الخطاب.
ومن المواقف التي تتجلى فيها قوة عمر وفضل إيمانه مما جعل الشياطين تخشاه ما رواه الترمذي قال: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ صَبَّاحٍ الْبَزَّارُ، حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ حُبَابٍ، عَنْ خَارِجَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، أَخْبَرَنَا يَزِيدُ بْنُ رُومَانَ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ جَالِسًا، فَسَمِعْنَا لَغَطًا وَصَوْتَ صِبْيَانٍ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ فَإِذَا حَبَشِيَّةٌ تَزْفِنُ وَالصِّبْيَانُ حَوْلَهَا، فَقَالَ: "يَا عَائِشَةُ تَعَالَيْ فَانْظُرِي". فَجِئْتُ فَوَضَعْتُ لَحْيَيَّ عَلَى مَنْكِبِ رَسُولِ اللَّهِ فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ إِلَيْهَا مَا بَيْنَ الْمَنْكِبِ إِلَى رَأْسِهِ، فَقَالَ لِي: "أَمَا شَبِعْتِ، أَمَا شَبِعْتِ". قَالَتْ: فَجَعَلْتُ أَقُولُ: لا. لأَنْظُرَ مَنْزِلَتِي عِنْدَهُ إِذْ طَلَعَ عُمَرُ، قَالَتْ: فَارْفَضَّ النَّاسُ عَنْهَا. قَالَتْ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ : "إِنِّي لأَنْظُرُ إِلَى شَيَاطِينِ الإِنْسِ وَالْجِنِّ قَدْ فَرُّوا مِنْ عُمَرَ". قَالَتْ: فَرَجَعْتُ. قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ[4].
ويروي بريدة: يَقُولُ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ فِي بَعْضِ مَغَازِيهِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ جَاءَتْ جَارِيَةٌ سَوْدَاءُ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي كُنْتُ نَذَرْتُ إِنْ رَدَّكَ اللَّهُ سَالِمًا أَنْ أَضْرِبَ بَيْنَ يَدَيْكَ بِالدُّفِّ وَأَتَغَنَّى. فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ : "إِنْ كُنْتِ نَذَرْتِ فَاضْرِبِي، وَإِلا فَلا". فَجَعَلَتْ تَضْرِبُ، فَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ وَهِيَ تَضْرِبُ، ثُمَّ دَخَلَ عَلِيٌّ وَهِيَ تَضْرِبُ، ثُمَّ دَخَلَ عُثْمَانُ وَهِيَ تَضْرِبُ، ثُمَّ دَخَلَ عُمَرُ، فَأَلْقَتِ الدُّفَّ تَحْتَ اسْتِهَا ثُمَّ قَعَدَتْ عَلَيْهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ : "إِنَّ الشَّيْطَانَ لَيَخَافُ مِنْكَ يَا عُمَرُ، إِنِّي كُنْتُ جَالِسًا وَهِيَ تَضْرِبُ، فَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ وَهِيَ تَضْرِبُ، ثُمَّ دَخَلَ عَلِيٌّ وَهِيَ تَضْرِبُ، ثُمَّ دَخَلَ عُثْمَانُ وَهِيَ تَضْرِبُ، فَلَمَّا دَخَلْتَ أَنْتَ يَا عُمَرُ أَلْقَتِ الدُّفَّ".
وقال طارق بن شهاب رحمه الله: كنا نتحدث أن عمر بن الخطاب ينطق على لسان ملك. ويروي علينا قول ابن مسعود : إني لأحسب الشيطان يفرق من عمر أن يحدث حديثًا فيرده، وإني لأحسب عمر بين عينيه ملك يسدده ويقومه.
فالحق يدور مع الفاروق حيث دار، والصدق يكون حيث كان، فالسكينة تنطق على لسانه، والحق وضع في قلبه، وهو المحدَّث الذي أُلقي الخير في روعه، وكثرت في آيات القرآن الكريم موافقاته.
وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله تعالى هو صاحب الفضل العظيم.
يقول البراء بن عازب : كَانَ أَوَّلَ مَنْ قَدِمَ الْمَدِينَةَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ، وَابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ، فَكَانُوا يُقْرِئُونَ النَّاسَ، قَالَ: ثُمَّ قَدِمَ بِلالٌ وَسَعْدٌ وَعَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ، ثُمَّ قَدِمَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فِي عِشْرِينَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ، ثُمَّ قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ ، فَمَا رَأَيْتُ أَهْلَ الْمَدِينَةِ فَرِحُوا بِشَيْءٍ فَرَحَهُمْ بِرَسُولِ اللَّهِ . قَالَ: حَتَّى جَعَلَ الإِمَاءُ يَقُلْنَ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ . قَالَ: فَمَا قَدِمَ حَتَّى قَرَأْتُ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى: 1] فِي سُوَرٍ مِنَ الْمُفَصَّلِ.
وهكذا ظل عمر بن الخطاب حريصًا على إعزاز الإسلام في أفعاله، ويعمل جاهدًا على إعانة من أراد الهجرة حتى خرج ومعه هذا الوفد الكبير من أقاربه وحلفائه.
فما أروع عمر بن الخطاب في إسلامه، وما أروعه في هجرته .
"ولما هاجر عمر أصبح وزير صدق للنبي وآخى بينه وبين عويمر بن ساعدة، وقيل: بينه وبين عتبان بن مالك، وقيل: بينه وبين معاذ بن عفراء، وقد علق ابن عبد الهادي على ذلك وقال: لا تناقض بين الأحاديث ويكون رسول الله قد آخى بينه وبين كل أولئك في أوقات متعددة".
ابحث
تسجيل الدخول
عدد زيارات الموقع
114,415