لا شك أن ميادين العظمة تختلف في هذه الحياة فيما يخص البشر، فمن العظماء من تظهر عبقريته في العلم، ومنهم من تظهر في الحكم، ومنهم من تبرز في الحرب، ومنهم من تتجلى عظمته في الفضيلة والخلق, هذا في أيام خلت، واليوم نسمع كثيراً نواحيَ جديدة للعظمة, حتى إن الناس نسوا معها مواطن العظمة الحقيقية .

لذا كان لزاما علينا أن نتعرف على عظماء تاريخنا، وأبطال أمتنا، ليكونوا لنا قدوة نسير على منهاجهم، ونقتفي في الحق آثارهم, وإنه لعار على مسلمٍ أن يعرف عن إنسان (ما) مالا يعرفه عن محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، رسول الإنسانية؛ المؤيد بالوحي من رب البرية، إنه لعار علينا وعلى أبنائنا أن نجهل من سيرته ما هو واضح معلوم .

عار علينا أن يعرف الأعداء نبينا وقدوتنا محمداً صلى الله عليه وسلم ونحن له جاهلون، وعن هديه متشاغلون، كاتب غربي يؤلف كتابه (العظماء المائة في التاريخ), ويرتبهم حسب قدرهم في العظمة على ما يرى هو، ويجعل العظيم الأول محمد بن عبد الله.

ويقول الأديب الروسي تولستوي: "ومما لا ريب فيه أن النبي محمد كان من عظماء الرجال المصلحين الذين خدموا المجتمع الإنساني خدمة جليلة، ويكفيه أنه هدى أمة برمتها إلى نور الحق، ورجل مثل هذا جدير بالاحترام والإكرام".

ويقول ويليام موير في كتابه سيرة محمد: "امتاز محمد بوضوح كلامه ويسر دينه، وقد أتم من الأعمال ما يدهش العقول, ولم يعهد التاريخ مصلحاً أيقظ النفوس وأحيا الأخلاق, ورفع شأن الفضيلة في زمن قصير كما فعل محمد".

أنا لم أذكر هذه النقول حباً في كلام هؤلاء، ولا تبجيلاً لمكانتهم، ولا شكاً في عظم قدر نبينا, إنما أردت أن أنقل المأساة التي نعيشها في حق هذا النبي الأمي الكريم، الذي لا يعرف شبابنا من سيرته إلا ما ندر ، ومن أخلاقه وبطولته وجهاده وسياسته وحكمته إلا ما ندَّ وعبر .

إن العظمة لتتجلى في كل شيء من خلْقه وخُلِقه، يظهر ذلك من وصف مَنْ رآه، فقد كان صلى الله عليه وسلم ظاهر الوضاءة، متبلج الوجه، ذو نور يعلوه، خافض الطرف، نظره إلى الأرض أطول من نظره إلى السماء، جل نظره الملاحظة، يمشي وراء أصحابه، لا يتميز عن أحدهم، يبتدر من لقيه بالسلام، دائم الأحزان، متواصل الفكرة ليس له راحة، يفتتح كلامه ويختمه بـ(باسم الله), طويل السكت، لا يتكلم في غير حاجة، كلامه فصل، لا فضول ولا تقصير، ليس بالجافي ولا المهين، يعظم النعمة وإن دقت، لا يذم منها شيئاً، لا تغضبه الدنيا وما كان لها, فإذا تُعُدي على الحق لم يقم لغضبه شيء حتى يُنتصر له، ولا يغضب لنفسه ولا ينتصر لها، وإذا غضب أعرض وأشاح، وإذا مزح غض طرفه، جلُّ ضحكه التبسم، إذا نطق فعليه البهاء، وإذا صمت فعليه الوقار، وأزين الناس منظراً وأحسنهم وجهاً، وأجودهم و أسخاهم نفساً، يعطي عطاءَ من لا يخشى الفقر، وما سُئل عن شيء قط فقال لا, ما خُيّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً, كان شجاعاً مقداماً, يقول عنه على رضي الله عنه، وهو من هو في الشجاعة: "كنا إذا احمرت الحِدَق, وحمي الوطيس نلوذ برسول الله صلى الله عليه وسلم, فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه".

وإذا أردت أن تعرف أعظم دلالة على عظمة هذا الرسول, فانظر إلى الجيل الذي خرج من تحت يده، والرعيل الذي تربى على منهجه, يقول عمر رضي الله عنه: "أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتصدق، ووافق ذلك مني مالا, فقلت: اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته, قال: فجئت ببعض مالي, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أبقيت لأهلك؟ قلت: مثله, وأتى أبو بكر رضي الله عنه بكل ما عنده، فقال يا أبا بكر: ما أبقيت لأهلك؟ قال : أبقيت لهم الله ورسوله, قلت لا أسبقه إلى شيء أبداً". رواه أبو داود والترمذي، وقال حديث حسن صحيح . هذا في السخاء .

أما الشجاعة والإقدام فهذا خالد بن الوليد القائد الذي لم يُهزم، والفاتح الذي لم يُغلب، والعبقري الذي ما زالت خططه تدرس, فاتح العراق والشام، وقاهر كسرى وقيصر, في يوم مؤتة كان عدد المؤمنين ثلاثة آلاف, وعدد الروم مائتي ألف، حمل خالد عليهم لما انتقلت إليه الراية, فقاتل قتال الشجعان الأبطال, وأخذ يدق هام المشركين، واسأل خالداً كم سيفاً اندق في يده, إنها تسعة أسياف, ولم يثبت في يده إلا صحيفة يمانية, إنه سيف الله, وسيف رسوله, إن جيشاً هذا قوامه يهزم جيشاً ذلك تعداده لأمر يحوز على قدر كبير من العجب.

وهذا طلحة بن خويلد يرسله سعد لينظر في جيش رستم ليعرف عدده وقدره وعدته, وكان معه أربعة, فلما تراءى لهم الجيش, عاد الأربعة, أمَّا هو فقال: والله لا أعود حتى أوغل فيه، وأصل إلى قائدهم، وكان عددهم هائلاً، يصطف منهم في المقدمة سبعون ألفاً، فانطلق طلحة بعقيدته الثابتة، وشجاعته النادرة, يشق هذه الصفوف كلها، ويتجاوز سبعين ألفاً منهم, حتى يصل إلى خيمة القائد، فينظر أمرهم، ويعرف خبرهم, حتى إذا تم له ما أراد, قال: والله لا أنصرف حتى أركب فرس قائدهم، وحتى آخذ سيفه , فتسلل حتى ركب الفرس، وتحايل حتى أخذ السيف, "ثم خرج يعدو به فرسه، ورآه الناس فركبوا في طلبه، فأصبح وقد لحقه فارس من الجند فقتله طلحة، ثم آخر فقتله، ثم لحق به ثالث فرأى مصرع صاحبيه، وهما ابنا عمه، فازداد حنقاً، فلحق طلحة فكرَّ عليه طلحة وأسره ولحقه الناس، فرأوا فارسي الجند قد قتلا وأسر الثالث وقد شارف طلحة عسكره، فأحجموا عنه، ودخل طلحة على سعد ومعه الفارسي وأخبره الخبر، فسأل الترجمان الفارسي، فطلب الأمان، فآمنه سعد، قال: أخبركم عن صاحبكم هذا قبل أن أخبركم عمن قبلي، باشرت الحروب منذ أنا غلام إلى الآن وسمعت بالأبطال ولم أسمع بمثل هذا أن رجلاً قطع فرسخين إلى عسكر فيه سبعون ألفاً يخدم الرجل منهم الخمسة والعشرة فلم يرض أن يخرج كما دخل حتى سلب فرسان الجند وهتك عليهم البيوت، فلما أدركناه قتل الأول، وهو يعد بألف فارس، ثم الثاني وهو نظيره فقتله، ثم أدركته أنا ولا أظن أنني خلفت من بعدي من يعدلني وأنا الثائر بالقتيلين فرأيت الموت واستؤسرت"، تلك هي البطولة، وأولئك هم الأبطال، فمن يفاخر به، ويسير على دربهم .

alayman

اللهم ما اجعله خالصا لوجهك يا كريم وانفعنا به واجعله فى ميزان حسناتنا

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 101 مشاهدة
نشرت فى 4 أغسطس 2019 بواسطة alayman
alayman
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

114,421