عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ما بعث الله من نبي ولا استخلف من خليفة إلا له بطانتان: بطانة تأمره بالخير وتحضه عليه، وبطانة تأمره بالشر وتحضه عليه. فالمعصوم من عصم الله تعالى. [ صحيح البخاري، 6611 و7198 ]. وفي رواية هذا الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه، أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من والٍ إلا وله بطانتان، بطانة تأمره بالمعروف وتنهاه عن المنكر، وبطانة لا تألوه خبالا، فمن وُقي شرها فقد وُقي، وهو من التي تغلب عليه منهما. [ صحيح / صحيح سنن النسائي للألباني، 4212 ].

هاتان الروايتان تفسران بعضهما بعضا. ففي رواية أبي هريرة، " ما من والٍ "، وهي أعم. والخير الذي تأمر به البطانة الصالحة هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، على ما جاء في رواية أبي هريرة.

جاء في فتح الباري بشرح صحيح البخاري للحافظ ابن حجر العسقلاني ( ج: 13، ص: 202 ): البطانة: الدخلاء، جمع دخيل، وهو الذي يدخل على الرئيس في مكان خلوته، ويفضي إليه بسره، ويصدقه فيما يخبره به مما يخفى عليه من أمر رعيته، ويعمل بمقتضاه. وقال المباركفوري في تحفة الأحوذي بشرح الترمذي ( ج: 6، ص: 237 ): " إلا وله بطانتان ": البطانة: الصاحب، وهو الذي يُعرّفه الرجل أسراره ثقة به, شبهه ببطانة الثوب.
وقوله: " وتحضه عليه ": أي ترغبه فيه وتؤكده عليه. وقوله في الرواية الأخرى: " بطانة تأمره بالمعروف ": أي ما عرفه الشرع وحكم بحسنه، " وتنهاه عن المنكر ": أي ما أنكره الشرع ونهى عن فعله.
وقوله " لا تألوه خبالا ": أي لا تقصر في إفساد أمره لعمل مصلحتهم, وهو اقتباس من قوله تعالى: ﴿ َلا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً ﴾ ] آل عمران: 118 [. وقوله: " فالمعصوم من عصم الله "، وفي الرواية الأخرى: " ومن وقي شرها فقد وقي ": والمراد به إثبات الأمور كلها لله تعالى: فهو الذي يعصم من شاء منهم. " فالمعصوم من عصمه الله لا من عصمته نفسه "، إذ لا يوجد من تعصمه نفسه حقيقة إلا إن كان الله عصمه.
قال الحافظ : والمراد به إثبات الأمور كلها لله تعالى، فهو الذي يعصم من شاء منهم. فالمعصوم من عصمه الله، لا من عصمته نفسه. إذ لا يوجد من تعصمه نفسه حقيقة، إلا إن كان الله عصمه .
وفيه إشارة إلى أن ثم قسما ثالثا، وهو: أن من يلي أمور الناس قد يقبل من بطانة الخير دون بطانة الشر دائما, وهذا اللائق بالنبي, ومن ثم عبر في آخر الحديث بلفظة " العصمة ". وقد يقبل من بطانة الشر دون بطانة الخير, وهذا قد يوجد ولا سيما ممن يكون كافرا. وقد يقبل من هؤلاء تارة ومن هؤلاء تارة, فإن كان على حد سواء فلم يعترض له في الحديث لوضوح الحال فيه، وإن كان الأغلب عليه القبول من أحدهما فهو ملحق به إن خيرا فخير وإن شرا فشر.
قال ابن التين: " يحتمل أن يكون المراد بالبطانتين الوزيرين، ويحتمل أن يكون الملك والشيطان ". وقال الكرماني: " يحتمل أن يكون المراد بالبطانتين: النفس الأمارة بالسوء، والنفس اللوامة المحرضة على الخير "، إذ لكل منهما قوة ملكية وقوة حيوانية انتهى. والحمل على الجميع أولى إلا أنه جائز أن لا يكون لبعضهم إلا البعض.
وقد استشكل هذا التقسيم بالنسبة للنبي صلى الله عليه وسلم. لأنه وإن جاز عقلا, أن يكون فيمن يداخله من يكون من أهل الشر لكنه لا يتصور منه أن يصغى إليه, ولا يعمل بقوله لوجود العصمة. وأجيب بأن في بقية الحديث الإشارة إلى سلامة النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك، بقوله: " فالمعصوم من عصم الله تعالى ". فلا يلزم من وجود من يشير على النبي صلى الله عليه وسلم بالشر، أن يقبل منه. وقيل: " المراد بالبطانتين في حق النبي: الملك والشيطان "، وإليه الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم: " ولكن الله أعانني عليه فأسلم ".
وفي معنى الحديث السابق، الحديث الذي روته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من ولي منكم عملا، فأراد الله به خيرا، جعل له وزيرا صالحا، إن نسي ذكّره، وإن ذكر أعانه. [ صحيح / صحيح سنن النسائي للألباني، 4215 ].
ونقل الحافظ ابن حجر عن ابن التين قوله، أنه " ينبغي للحاكم أن يتخذ من يستكشف له أحوال الناس في السر, وليكن ثقة مأمونا فطنا عاقلا "، لأن المصيبة إنما تدخل على الحاكم المأمون من قبوله قول من لا يوثق به إذا كان هو حسن الظن به. فيجب عليه أن يتثبت في مثل ذلك.

وفي أيامنا هذه، نجد أنه بمجرد تولي المسئول لمهام منصبه يكون أمامه خياران عند اختيار أفراد حاشيته، فإما أن يختارها من أهل الثقة، وإما أن تكون من أهل الخبرة. فأهل الثقة يضمن بهم المسئول استمراره في كرسيه، حتى ولو لم يؤدِ المهام المنوطة به. أما أهل الخبرة فيؤدي بهم المسئول عمله على أكمل وجه، ولكن يكون استمراره في منصبه محل شك كبير.
ولذلك يفضل الكثير من المسئولين إحاطة أنفسهم بحاشية من أهل الثقة، لضمان بقائهم واستمرارهم في مناصبهم لأطول وقت ممكن، بغض النظر عن اعتبارات مصلحة البلاد أو العباد. فالمصلحة الشخصية عندهم أهم من أي شيء آخر.
ويشيع بين الناس مقولة، مفادها " إن الوزير إذا دخل الوزارة فقد نصف عقله، فإذا خرج منها، فقد عقله كله ". وذلك مما يجده أثناء توليه لمهام منصبه من صلاحيات وامتيازات. فهو سيد مطاع، يخضع له الجميع بتنفيذ الأوامر، ويدين له الكل بالطاعة. فإذا خرج من الوزارة طاش لبه من فقدانه لكل ذلك النعيم الذي كان فيه، ومن تغير الناس له، وتنكرهم لشخصه.
ومن ناحية أخرى، بمجرد تولي الوزير لمهام منصبه، يلتف حوله حاشية من المسئولين، هدفها إحباطه عن أداء دوره، أو محاولة حبسه داخل مكتبه. وتعتبر هذه الحاشية من أهم أسباب فشل الوزراء. ويكون أفراد تلك الحاشية ممن يقلبون الأمور والصور، ليجعلوا من الصورة المضيئة صورة معتمة، أو من الصورة المعتمة صورة مضيئة، حتى تنقلب الموازين أمام الوزير. وهناك من الوزراء من يستسلم ويذعن، إلا أن هناك منهم من يرفض كل القيود المفروضة حوله، ويصر على نزع جدران مكتبه والانطلاق إلى مكاتب أفراد وزارته للتعرف بنفسه على المشاكل دون وسيط قد يغير من الصورة.
وتتنوع أهداف بطانة السوء من حجب الناس عن المسئول. فمنهم من يريد أن يقوى نفوذه ويكون هو صاحب الأمر والنهي. فالمسئول لا يعرف غيره، ومن ثم ينقل أوامره إليه. ويكون عليه هو إبلاغ تلك الأوامر إلى بقية المرؤوسين. فيبلغها إليهم وكأنه هو من أصدر تلك الأوامر.
ومنهم من يحاول استغلال قربه من المسئول في تحقيق المكاسب الخاصة من جراء علاقته به. فهو يلهث ورائه لانتزاع توقيعاته بالموافقة على أسفار واجتماعات ومقابلات يقوم بها، ليجمع من ورائها من الأموال التي ما كان يحلم أن يجمعها في حياته بعيدا عن ذلك المسئول.
ولذلك فهذه النوعية من بطانة السوء لا تطيق أن ترى أحدا غيرها في مكتب المسئول. ذلك أن دخول أي فرد إلى المسئول، إذا أثبت كفاءة ما، ففي ظن تلك البطانة أنها ستُحرم من مكانها بقرب هذا المسئول، ومن ثم فستُحرم من النعيم الذي تعيش فيه.
قال ابن قيم الجوزية في كتابه الماتع: الفوائد: قول الله تعالى: ﴿ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إَِّلا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ ﴾ ] الحجر: 21 [، متضمن لكنز من الكنوز وهو أن كل شيء لا يطلب إلا ممن عنده خزائنه ومفاتيح تلك الخزائن بيديه. وأن طلبه من غيره طلب ممن ليس عنده ولا يقدر عليه. وقوله: ﴿ وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى ﴾ ] النجم: 42 [، متضمن لكنز عظيم، وهو أن كل مراد إن لم يرد لأجله ويتصل به وإلا فهو مضمحل منقطع، فإنه ليس إليه المنتهى، وليس المنتهى إلا إلى الذي انتهت إليه الأمور كلها فانتهت إلى خلقه ومشيئته وحكمته وعلمه، فهو غاية كل مطلوب، وكل محبوب لا يُحب لأجله فمحبته عناء وعذاب، وكل عمل لا يراد لأجله فهو ضائع وباطل، وكل قلب لا يصل إليه فهو شقي محجوب عن سعادته وفلاحه، فاجتمع ما يراد منه كله في قوله: ﴿ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إَِّلا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ ﴾، واجتمع ما يراد له كله في قوله: ﴿ وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى ﴾. فليس وراءه سبحانه غاية تطلب، وليس دونه غاية إليها المنتهى (1) .

لذلك فيجب على المرء أن يشغل نفسه بالله. فالقلب إن لم يمتلئ بمحبة الله، امتلئ بحب الدنيا وشهواتها وأصبح أسيرا لها. فمن الهام على من أوكل إليه منصب معين أن يتقي الله فيه. وألا يكون هذا المنصب هو محور حياته واهتمامه، بل يكون محور اهتمامه وتفكيره هو كيف يؤدي المهام الموكولة إليه بالطريقة التي ترضي ربه وتُعلي من شأن دينه. وعلى البطانة التي تحيط بالمسئولين أن تتقي الله وتراعي ضمائرها فيما تنقله لهؤلاء المسئولين وما تشير عليهم به. وعليهم أن يعلموا أن أيام نفوذهم محدودة، ثم يعقب ذلك عذاب ضمير ولعنات تلاحقهم أينما حلوا أو ارتحلوا. ثم يكون عقاب الله في يوم لا ينفع فيه نفوذ مسئول أو شفاعة رئيس!!


-----------------
[1]  الإمام ابن قيم الجوزية، كتاب الفوائد، دار التقوى، دون تاريخ. ص: 215.

 

alayman

اللهم ما اجعله خالصا لوجهك يا كريم وانفعنا به واجعله فى ميزان حسناتنا

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 88 مشاهدة
نشرت فى 6 يوليو 2019 بواسطة alayman
alayman
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

114,399