فمن أسماء الله الحسنى "الحييُّ"؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله حييٌّ يستحيي من عبده إذا مدَّ يديه إليه أن يردَّهما صفْرًا))؛ [أخرجه أبو داود والترمذي]، وقال عليه الصلاة والسلام: ((إن الله عز وجل حييٌّ ستِّير، يُحِبُّ الحياءَ والستر، فإذا اغتسل أحدكم فليستتر))؛ [أخرجه أبو داود والنسائي].
فالحياء صفة لله عز وجل، على ما يليق بجلاله وكماله، ليس كحياء المخلوقين، وقد جاءت النصوص بالحث على الحياء والترغيب فيه، وأن الله جل جلاله يحبُّه، وأنه خيرٌ كلُّه، وأنه من شُعَب الإيمان.
وهو خُلُق تقرُّهُ الفِطَر المستقيمة، وتدعو إليه العقول السليمة؛ لأنه يبعث على ترك الأمور القبيحة، والتحلِّي بالصفات الجميلة.
قال الحسن رحمه الله: "أربع من كُنَّ فيه كان كاملًا، ومن تعلَّق بواحدة منهنَّ كان من صالحي قومه: دين يرشده، وعقل يُسدِّده، وحَسَب يصونه، وحياء يقُوده".
قال الأصمعي رحمه الله: "سمعتُ أعرابيًّا يقول: من كساه الحياء ثوبه لم يرَ الناس عيبه".
وقد اتَّصف بهذا الخُلُق صفوة الخلق والأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فنبيُّنا محمد صلى الله عليه وسلم كان أشدَّ حياءً من العذراء في خِدْرِها، ونبيُّ الله موسى عليه السلام كان حييًّا ستِّيرًا، لا يُرى من جلده شيء استحياء منه؛ [متفق عليه].
وقد كان الصحابة رضي الله عنهم ممن اتصفوا بهذا الخُلُق، على رأس هؤلاء أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه، فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم، والملائكة الكِرام يستحيون منه؛ فعن عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن عثمان رجل حيي))، وفي رواية: ((ألا أستحيي من رجل تستحيي منه الملائكة))؛ [أخرجه مسلم]، ومن صور حياء الصحابة رضي الله عنهم:
الحياء من رسول الله صلى الله عليه وسلم:
عن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: "لما بايعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم كنتُ أشدَّ الناس حياءً من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما ملأتُ عيني من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا راجعتُه بما أُريدُ حتى لحق بالله عز وجل حياءً منه"؛ [أخرجه أحمد].
وعن أنس رضي الله عنه، قال: "بعثني أبو طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لأدعوه، وقد جعل طعامًا، قال: فأقبلتُ ورسول الله صلى الله عليه وسلم مع الناس، فنظر إليَّ، فاستحييتُ فقلتُ: أجِبْ أبا طلحة"؛ [أخرجه مسلم].
وحياء الإنسان من الآخرين يدل على توقيره واحترامه لهم، ومكانتهم عنده.
الحياء من فعل ما يخرم المروءة:
عن عبدالله بن مُغَفَّل رضي الله عنه قال: "كُنَّا مُحاصرين قصر خيبر، فرمى إنسان بجراب فيه شحم، فَنَزَوْتُ لآخُذُه، فالتفتُّ فإذا النبي صلى الله عليه وسلم، فاستحييتُ منه"؛ [متفق عليه].
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: وفي قوله: "فاستحييت منه" إشارة إلى ما كانوا عليه من توقير النبي صلى الله عليه وسلم، ومن معاناة التنزُّه عن خوارم المروءة.
الحياء من ذكر ما يُستحيَا منه عرفًا:
عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: كنتُ رجلًا مذَّاءً، فاستحييتُ أن أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمرتُ المقداد بن الأسود أن يسأله، فقال: ((فيه الوضوء))، وفي رواية: "كنت رجلًا مذَّاءً، فأمرت رجلًا أن يسأل النبي صلى الله عليه وسلم لمكان ابنته"؛ [متفق عليه].
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: وفيه استعمال الأدب في ترك المواجهة بما يُستحيا منه عُرْفًا، وترك ذكر ما يتعلَّق بجِماع المرأة ونحوه بحضرة أقاربها.
وإن أراد الإنسان الإخبار عما يستحي منه، فليكن التعبير عن ذلك بأدب وإيجاز؛ فعن أُمِّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها، قالت: إن رجلًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إنه احترق، قال: ((مالك؟))، قال: أصبْتُ أهلي في رمضان، وفي رواية أبي هريرة رضي الله عنه، قال: "وقَعْتُ على امرأتي وأنا صائم"؛ [متفق عليه].
وعن عائشة رضي الله عنها، قالت: "حججنا مع النبي صلى الله عليه وسلم، فأفضنا يوم النحر، فحاضت صفية، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم منها ما يريد الرجل من أهله، فقلت: يا رسول الله: إنها حائض"؛ [أخرجه البخاري].
وعن عبدالله بن شهاب الخولاني، قال: "كنتُ نازلًا على عائشة، فاحتلمْتُ في ثوبي، فغمستُهما في الماء، فرأتني جارية لعائشة فأخبرتْها، فبعثت إليَّ عائشة، فقالت: ما حملَكَ على ما صنعتَ بثوبيك؟ قال: قُلتُ: رأيتُ ما يرى النائم في نومه"؛ [أخرجه مسلم].
حياء الصغار وأدبهم عند وجود الكبار:
عن عبدالله ابن عمر رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها، وإنها مثل المسلم، فحدِّثوني: ما هي؟))، فوقع الناس في شجر البوادي، قال عبدالله: فوقع في نفسي أنها النخلة، فاستحييتُ، ثم قالوا: حدِّثنا، ما هي يا رسول الله؟ قال: ((هي النخلة))، قال عبدالله: فحدَّثْتُ أبي بما وقع في نفسي، فقال: ما منعَكَ أن تقولها؟ لو كنتَ قُلتَها كان أحبَّ إليَّ من كذا وكذا، قال: ما منعني إلَّا أني لم أركَ ولا أبا بكر تكلمتما فكرهتُ، وفي رواية: "فأردْتُ أن أقول: هي النخلةُ، فإذا أنا أصغر القوم، فسكتُّ"، وفي رواية: "فإذا أنا عاشر عشرة، أنا أحدثهم"؛ [متفق عليه].
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: وفيه استحباب الحياء ما لم يُؤدِّ إلى تفويت مصلحة؛ ولهذا تمنَّى عمر أن ابنه لم يسكت.
حياء الصحابيات رضي الله عنهن:
الحياء إذا كان في الرجال جميلًا، فهو في النساء أجمل، فالمرأة من طبيعتها وفطرتها الاستحياء؛ قال الله عز وجل: ﴿ فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ ﴾ [القصص: 25]، قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: رُوي عن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه أنه قال: "جاءت متسترة بكم درعها، ليست بسَلْفَع من النساء لا خرَّاجة ولا ولَّاجة"، هذا إسناد صحيح.
قال الجوهري: السلفع من النساء: الجريئة السليطة.
ونساء الصحابة رضي الله عنهم، كان الحياء خُلُقهن، وإن كان ذلك لم يمنعهن من السؤال والفقه في الدين؛ فعن أُمِّ المؤمنين عائشة بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما قالت: "نعم النساء نساء الأنصار، لم يمنعهن الحياء أن يتفقهنَ في الدين"؛ [متفق عليه].
لقد بلغ الحياء بأمهات المؤمنين، ونساء الصحابة رضي الله عنهن، أن يسترن وجوههنَّ، وأن يضعن أيديهنَّ على رؤوسهنَّ، إذا سمعن ما يُستحيا منه؛ فعن أُمِّ سلمة رضي الله عنها، قالت: جاءت أُمُّ سليم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله، إن الله لا يستحيي من الحق، فهل على المرأة من غسل إذا احتلمت؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((نعم، إذارأت الماء))، فغطَّت أمُّ سلمة رضي الله عنها وجْهَها، وقالت: يا رسول الله، وتحتلم المرأة؟ فقال صلى الله عليه وسلم: ((نعم، تربَتْ يداك، ففيمَ يُشبهها ولدُها))؛ [متفق عليه].
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "جاءت فاطمة بنت عتبة تُبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ عليها: ﴿ أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ ﴾ [الممتحنة: 12]، فوضعت يدها على رأسها حياء، فأعجبه ما رأى منها، فقالت عائشة: أقري أيتها المرأة، فوالله ما بايعنا إلا على هذا، قالت: فنعم إذًا، فبايعها بالآية"؛ [أخرجه أحمد].
وبلغ الحياء بهن أن تتمنَّع البِكْر، فلا تنطق مُبديةً رغبتها في النكاح بل تسكت؛ فعن أمِّ المؤمنين عائشة بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تُنكَح البِكْر حتى تُستأذن))، قلت: يا رسول الله، إن البكر تستحيي، فقال عليه الصلاة والسلام: ((إذْنُها صُماتُها))؛ [متفق عليه].
وبلغ الحياء بهن أن يمتنعنَ من المشي مع الرجال الأجانب؛ فعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما، قالت: "تزوَّجني الزبير وما له في الأرض من مال، وكنت أنقل النوى من أرض الزبير، وهي مني على ثلثي فرسخ، فجئتُ يومًا والنوى على رأسي، فلقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه نفر من الأنصار، فدعاني ثم قال: ((إخ إخ))؛ ليحملني خلفه، فاستحييتُ أن أسير مع الرجال، فعرَف النبي صلى الله عليه وسلم أنِّي قد استحييتُ، فمضى"؛ [أخرجه البخاري].
ويبلغ الحياء غايته ومنتهاه عند أُمِّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها المبرَّأة المطهَّرة من كل شكٍّ وريبة، فتستحيي رضي الله عنها وأرضاها أن تخلع ثيابها عند رجل ميت من أطهر وأغير عباد الله المؤمنين، ومن أفضل الصحابة بعد أبي بكر الصديق، وهو أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ فعن أُمِّ المؤمنين عائشة بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما، قالت: "كنت أدخُلُ بيتي الذي دُفِن فيه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأبي، فأضع ثيابي، وأقول: إنما هو زوجي وأبي، فلما دُفِن عُمَرُ معهم، فوالله ما دخلتُه إلَّا وأنا مشدودة عليَّ ثيابي حياءً من عمر"؛ [أخرجه أحمد].
اللهم وفِّقنا ونساءنا للتحلِّي بخُلُق الحياء، واجعلنا ممن يقتدي بصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك.