ماذا إذن لو ...
**************
بقلم :أحمد بو قرّاعة-تونس

-انظري ،عجيبٌ أمرُ ذاك الرّجل،يداه قصيرتان،و يتقنُ الأكلَ باليسْرَى اتقانَهُ باليمنَى.
التفتتْ إليهِ زوجتُهُ و كانت تحاذيهِ في مجلسِ فرْحٍ و مأدُبَةٍ و إلى جوارهِمَا بنْتَاهمَا ،فقالتْ الزوجةُ
-وفيم العجبُ فيمَا كانَ لكَ فيهِ عجَبٌ ؟لعلّ العلّةَ اضطرّتْهُ فعلَّمتْهُ .ولعلَّ النّقْصَانَ دفعهُ فدرَّبَهُ .وكذلك شأنُ العلّةِ و النقصَانِ يَخْلُقَانِ الحاجةَ و الوسيلَةَ في المعتلِّ صحيحِ النَّظَرِ متعلِّقٍ بالإرادةِ موقِنٍ بالفعْلِ
-نعم ،تعلُّقَ يدِكِ بخناقي ما الْتقَطَتْ عَيْنِي لقْطَةً أو نقّطَ لساني على حرفٍ نقطةً .وكذلك شانُ النّسَاء يجمعنَ ملحَ الحدَقَةِ أُجَاجًا يصنعْنَ منهُ توهَّمًا جملةً حذقةً ،كالملوكِ إذا دخلوا قريَةً أفسدوها ،و هنَّ كذلكَ يفْعلْنَ.
-ولم الهربُ ممَّا أنت قد أبصرْتَهُ فحرَّكْتَ بهِ لسانكَ و عجلْتَ بهِ و أثرْتَهُ ؟أَكُلَّمَا مُهِّدَتْ للقوْلِ طريقٌ عوّجَهَا لسان وحفَّرَهَا منطقٌ و كذلكَ اللّسان،كأنّهُ لا يستقيمُ إلّا في الفساد.و ما رأيتٌ في الرَّجُلِ ذاكَ فَسَادَ يدٍ .و إنِّي قد حاولتُ بيسرايَ الطَّويلَة مَا أتقنَ بيسراهُ القصيرة فتباطأتْ وارتعشَ الحساءُ في الملعقةِ لولا أنّي طاطأتُ الرّأسَ ووسّعْتُ الفمَ و عوّجْتُ الشَّفَتَيْنِ .و إنّي على ذلك حتَّى تستقيمَ هذهِ اليسرى و تشتدَّ و تروضَ الطّريق.
حاول الزّوج أن يصعّدَ الحساء إلى فمه فما طاوعتْ ملعقةٌ أصابعهُ و تشابكتْ الوسطى مع السّبابة و نفر الإبهامُ منهما فلم يستطعْ عليهَا ضغطًا أو لهَا ضبطًا ،واجْتَمعتْ على الملْعقةِ كلُّ أصابعهِ و ما توسّطتْ طريقًا حتّى مالتْ و شوّهَتْ فمهُ لبمَا أسالتْ و ثوبَهُ بمَا قطَّرتْ و أفْلَتَتْ فضحكتْ صغيرَتُهُ واستحيَتْ من صنيعِهِ كبيرتُهُ .و ترَكَ الزّوجُ الملعقةَ يلومُ كلَّ شيءٍ و بنفرُ من كلِّ فعلٍ .و رأتْ زوجَتُهُ فسَادَ رأيِهِ في يقينِهِ بالعجزِ و تركِ المحاولةِ فقالتْ لهُ :
--ما أبعدَ النجاح إلّا ترْكُ المُحاولةِ .وإنِّي محاولة ذلك ،وفي ذلك عزْمٌ و حزمٌ و إصرارٌ و إصلاحٌ و كيلُ اللّقْمة وقيسٌ المسافة و تعويدُ هذه اليسرى عليْهِمَا فتَصْلُحُ و تَمْتُنُ و تقْوَى فتَصيرُ كاليمنى أو أشدُّ بأسًا و بطْشًا و أخْذًا ومدًّا،و ما هذه اليمنى سوى عادة خلّفتْ اعتقَادًا ترك مشْيًا في طريقٍ أَلِفَتْهَا الأقدام و زيَّنَتْهَا الألسُنُ فخاطتْ خلايَا تلكَ الأدْمغَةِ بخيوطِ الإذعَانِ و الدَّعة و القناعة و ترك الجهد تظنُّ في ذلكَ كلِّهِ السّليمة العاضَّةِ على الحقِّ ناسيةً أنّ أغلب أسنان البشرِ يُصيبُهَا النَّخرُ و التسوُّسُ
.
-و مالي و هذا الجهد الضّائع ،و قد رأيتُ و رأى الجميع ما أصاب يدِي و فَمِي و ثوْبِي فأضْحكَ الأولَى و ورَّدَ خدَّ الثانية وفكَّ لسانًا كان في فمكِ مدفونًا مقبورًا فصار بما تظُنِّين هوَ الصّوابُ مرْفوعًا .مَا شَكَتْ يمْنَى نَصًبًا و مَا خالفتْ في ذلِكَ طَبيعةً و ما رجَتْ يسرى عوضًا أو بدَلاً أو مسَاعدةً .وهلْ أغلبُ النّاس إلّا باليمنى تطْعَمُ و تأخذُ و تعطِي .مَا يُسْرَاكَ إلّا سندٌ عندَ حاجة أو ضرورة ،وما نحن في حاجةٍ وما اضطرّتنا طبيعة إلى ضرورةٍ.
و غلَتْ المرأةُ ماءً في برمةٍ تحتها سَعير وقودهَا الإصرارو المحاولة .و كادتْ المِلْعقةُ إلى أناملها تطْمَئنُّ ،و كادتْ تعرِفُ الطَّرِيقَ.و رأتْ البنتانِ فيها ذلك و تخيَّلَتَا البلوغَ و تصوّرتَا الإصرارَ بوَعْيٍ يَخْلُصُ إلى نتيجَةٍ ،فصنعَتَا ما صنعتْ و كثُرَ الضَّحِكُ في حياءٍ .و رَاَى الجيرانُ الفعْلَ فظنُّوهُ لعبًا و لهْوًا ،وانتقلَ الأمرُمن طاولةٍ إلى أخرى يفْعَلُ الآكلونَ نفسَ الفعلِ محاولينَ و معاندينَ فرأوا فيما كانوا يخالفونَ لهوَا و لعبًا و جهدًا وعناءً و جدَّةً و فائدَةً و دعوةً لتمكين جسدٍ من قوّتين لم تأمرِ الطّبيعة بتركِ النّصف أو خذلانهِ .و رأتْ الزّوجةُ ذلكَ فزادَ اصرارهَا و كبُرَ فيهَا الفرحُ باليقينِ و تأكّدتْ الفكرةُ فقالتْ لزوجها:
-ما قد يستعصِي على يُسْرَاكَ ،و ربّمَا يمينكَ ،تقوى عليه هذه المتروكةُ اعتقادًا باطلًا في نقصانهَا .ومَا دعوتَ لترْكِ يمنَى ،وهل تعارضت ْقوّة مع أخرى تعاضدها و تكاتفها و تزيدها مناعة .و إن لم يكنْ في الإطعام مشقّةٌ ،و إن لم تكن الطَّريقُ إلى الفمِ طويلةٌ و بعيدةٌ و ما بها من وهادٍ أو جبالٍ أو مطبٍّ أو حفرٍ فهلْ يَمِينُكَ وحْدَهَا قادرةٌ على حمْلِي و أنَا الصَّغيرَةُ الرّشيقةُ إلى البيت و هي بعيدَةٌ وما الأرض إليها مهادًا؟
-أَأحمِلُكِ مرّتينِ ؟هذا القلبُ أنتِ فيه و تكبُرِينَ تجدينَ فيه الماء و الغَناء..و لكن ما أرى هذه اليمنى وحدها قادرةعلى حملِك و لو كنت بعض أرطالٍ...
-ما وددتُ منك و ما طلبْتُ حديثَ قلْبٍ ...فماذا إذًا لو اجتمعتْ عليَّ يداكَ ...ما الطّبيعةُ يمنى و إنّما هي نشاط .و ما أضعف اليسرى سوى ظنِّ الفسادِ فيها رأيًا ضعيفًا دونَ ممارسة النّشاط فيعتَدِلُ الجسمُ و يقوى ..أمَا ترى انَّ النّاس في هذا الفرح قد تحوّلوا من اللّهو إلى ما هو أفضلُ منه إذْ عرفوا فيهِ الجدَّ ..و ما العببُ إن أُخِذَ النّاسُ جميعا إلى الجدِّ و الفائدة باللّهوِ و اللّعبِ؟
وكبُرَ الفرَحُ في القاعة و كاداللّيل يذهبُ كثيرُهُ .واستأنست العائلةُ للمغادرة فالتفتت الزّوجة إلى زوجِها و قالتْ :
-يقيني أنّهُ لو اجتمعتْ عليَّ يداك ....و دعْ عنك لسانكَ فإنّه يضرِبُ في كلّ الجهاتِ...و ضحكتْ...

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 149 مشاهدة
نشرت فى 19 مارس 2016 بواسطة alankaa

مجلة رابطة العنقاء للابداع الادبي

alankaa
بسم الله الرحمن الرحيم -أهلاً وسهلاً بكم معنا في هذا المنتدى الثقافي الأدبي ..و الذي يرعى الإبداع الأدبي بكل صوره من حيث الاهتمام بالمبتدئين الموهوبين والتفاعل مع المبدعين الكبارِ ليرتقي الجميعُ ،، ..اهلاا و مرحبا بكم . »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

110,135